باحثون في داء التوحد يكتشفون جينًا يمثل نقلةً علميةً في فهمه

هناك عيوب وراثية متعاكسة لو تواجدت في أحد البروتينات فإنها قد تؤدي إما إلى الصرع الطفولي أو إلى داء التوحد


يمكن أن تسبب مجموعة فريدة من العيوب الجينية في أحد البروتينات العصبية إما إلى داء الصرع عند الأطفال أو إلى اضطرابات في طيف التوحد autism spectrum disorders (ASDs)، ويتوقف ذلك على ما إذا كانت الطفرات المعتبرة ستعزز وظيفة البروتين أو ستخربها وذلك وفقًا لدراسة حديثة قام بها باحثون من جامعة سان فرانسيسكو.

ويقول المؤلفون إن تعقّب الكيفية التي يمكن بها لهذه العيوب الجينية الخاصة أن تسبب المزيد من التغييرات العامة في وظائف الدماغ يمكنه أن يحل الألغاز الأساسية حول العلاقة بين الأحداث المبكرة أثناء تطور الدماغ وبين داء التوحد.

ويقول ستيفن ساندرز Stephan Sanders الحاصل على شهادة الطب والدكتوراه، والأستاذ المساعد في الطب النفسي في جامعة سان فرانسيسكو وعضو معهد ويل للعلوم العصبية التابع لجامعة سان فرانسيسكو وهو كذلك من كبار المؤلفين المشاركين في الدراسة الجديدة: "إن جينات الأمراض العصبية غالبًا ما تكون معقدة، إلا أننا لدينا هنا جين وحيد يمكن للطفرات الحادثة فيه أن تتسبب بنوبات طفولية أو أن تسبب داء التوحد بطريقة متسقة ويمكن التنبؤ بها، وهو ما يتيح لنا الفرصة لمعرفة نقاط التشابه والاختلاف بين هذين المرضين".

ويقول المؤلفون أن هذه النتائج هي خطوة أولى نحو معرفة كيف يمكن لمختلف التغيرات الطفيفة في الوظيفة العصبية في الجنين أن تؤدي إلى تطور إما دماغ يكون عرضة للنوبات أو دماغ توحدي في مرحلة الطفولة. وعلاوة على ذلك، تشير الدراسة إلى أنَّ الجين المسؤول عن هذه التغييرات- ويدعى SCN2A –هو أحد الجينات التي تلعب دورًا سببيًا في وجود اضطرابات طيف التوحد".

وكان ماثيو ستات Matthew W. State، الحاصل على شهادة الطب، والدكتوراه، وبروفيسورية عائلة أوبيرندورف، ورئيس قسم الطب النفسي في جامعة سان فرانسيسكو، هو أوَّل من اكتشف هذه الرابطة بين داء التوحد وبين البروتين SCN2A. ووفقًا لستات، والذي لم يشترك في الدراسة الجديدة بشكل مباشر:" في أبحاث التوحد، يعتبر فهم السبب الكامن وراء تسبب جين وحيد بمجال واسع من الاضطرابات العصبية المتطورة أحد أهم التساؤلات بالنسبة إلى هذا المجال. ويقدم هذا العمل الجديد أدلة هامة تبدأ بكشف الغموض الذي يكتنف هذا اللغز ويمكن أن يعتبر هذا العمل بمثابة حجر رشيد [1] جزيئي يوضح باثولوجيا التوحد".
 

نُشرت الدراسة على الانترنت في 27/1/2017 في Biological Psychiatry.

 

طفرات الـ SCN2A بين الموجهات الجينية للتوحد


ويقول ساندرز أن التقدم العلمي بوجود تقنية "الترتيب الجينومي لكامل الإكسومات whole-exome genome sequencing [2] إضافة إلى تجميع المجموعات المدروسة جيدًا كمجموعة سيمون سيمبلكس Simons Simplex Collection (SSC) وأفواج الأبحاث التي جمعها اتحاد تسلسل التوحد Autism Sequencing Consortium (ASC)، أتاح للباحثين احراز تقدم هائل في السنوات الاخيرة في تحديد مخاطر العوامل الوراثية في داء التوحد، ففي السنوات الأربع الأخيرة انتقلنا من مرحلة عدم المعرفة الحقيقية لكيفية العثور على جينات التوحد إلى امتلاك قائمة طويلة من الطفرات المرتبطة بالاضطراب".


ويقود ساندرز كطالب تخرج وباحث في مرحلة ما بعد الدكتوراه يعمل في مخبر ستات في جامعة ييل فريقا يبحث عن الطفرات الجينية المرتبطة بالتوحد وذلك بالعمل على خرائط جينومية لكامل الإكسومات لأكثر من 4000 طفل مصاب بالتوحد بالاشتراك مع عائلاتهم في اتحادي SSC و ASC. وفي دراسات نُشرت في الأعوام 2012 و2014 و 2015 وجد ستات وساندرز وشركائهما أن طفرات جينية جديدة، وهي طفرات تلقائية ليست موروثة عن الأبوين- تلعب دورا في تطور 10% من مجمل حالات التوحد، الأمر الذي يعد أكثر بكثير مما عُرف سابقا.

وقادت هذه الدراسات إلى تحديد 65 جين يحتمل بشدة اشتراكها في داء التوحد لدى إصابتها بطفرة، ومن المؤكد أن SCN2A هو أحد الجينات التي تتصدَّر القائمة. هذا الجين يشفر لقنوات صوديوم لبروتينات تدعى NaV1.2 والتي تعد هامة جدًا بالنسبة لقدرة الخلايا العصبية على التواصل الكهربائي، وخاصة في المراحل المبكرة من تطور الدماغ. كما يجدر بالذكر أن هذا الجين يعتبر أحد أوائل الجينات التي اكتشف اشتراكها في اضطرابات طيف التوحد بفضل الخرائط الجينومية لكامل الإكسومات.

 

إشارات تغير الطفرات أثناء تطور الدماغ


يرتبط الجين SCN2A بشدة بداء التوحد، كما أنَّ العلماء كانوا قد أشاروا سابقًا إلى احتمالية ارتباطه بالصرع. وحين قدم ساندرز إلى جامعة سان فرانسيسكو عام 2015، بدأ بالتعاون مع الطبيب العصبي كيفن بيندر Kevin Bender، الحائز على شهادة الدكتوراه والأستاذ المساعد في علوم الأعصاب في جامعة سان فرانسيسكو وأحد المؤلفين الأساسيين المشاركين في الدراسة، من أجل اختبار الآلية التي يؤدي بها تغير الوظيفة العصبية لطفرات SCN2A إلى الإصابة بهذين المرضين المختلفين.

ويقول بيندر، العضو في مركز علوم الأعصاب التكاملية في جامعة سان فرانسيسكو أيضًا، ومعهد كافلي لعلوم الأعصاب الأساسية، ومعهد ويل لعلوم الأعصاب:" لحسن الحظ، من السهل اختبار وظيفة قنوات الصوديوم في المختبر، فغالبا ما تشاهد طفرات مرتبطة بمرض ما ولكنك لا تكون على يقين تام من العمل الذي يفترض بهذا الجين القيام به أو كيف تقوم الطفرات بتغيير وظيفته. ولكن علماء الأعصاب قاموا بدراسة قنوات الصوديوم منذ خمسينيات القرن الماضي- والتجارب في غاية الوضوح".

ودرس فريق بيندر كيف أثرت 12 طفرة في SCN2A وُجدت لدى أطفال مصابين باضطرابات في طيف التوحد على الخصائص الكهربائية لقنوات NaV1.2 في الخلايا البشرية المستنبتة مخبريا. وكما كان متوقعا، وعلى أساس مواضع الطفرات في البروتين، أضعفت الطفرات الاثنا عشر وظيفة قناة الصوديوم، ولكن بطرق عديدة مختلفة، تتراوح من إيقاف القنوات عن الاصطناع نهائيًا، أو ببساطة إغلاق المسام التي يحتاجها الصوديوم للعبور إلى القناة وأداء وظيفته.

واستخدم الباحثون هذه البيانات لنمذجة أمثلة حاسوبية عن كيفية تأثير مختلف الطفرات في القنوات المُشاهدة لدى الأطفال المصابين باضطرابات في طيف التوحد بالإضافة إلى طفرات دُرست سابقًا عند أطفال رضَّع مصابين بما يعرف بالـ"نوبات الرضيعية" infantile seizures (وهي نوبات تشنجيَّة تحدث عند الأطفال الرضَّع تحت عمر السنة – فريق الترجمة) على خصائص إرسال الإشارات في خلايا الدماغ. ووجدوا أنه، وبخلاف الطفرات التي شوهدت لدى المصابين بالنوبات الرضيعية، والتي تجعل من الخلية العصبية نوعًا أكثر قابلية للإثارة، فإن الطفرات التي شوهدت لدى أطفال مصابين باضطرابات طيف التوحد جعلت من ارسال الإشارات الكهربائية بالنسبة لجميع أنواع الخلايا العصبية أمرا شديد الصعوبة.

ويقول روي بن-شالوم Roy Ben-Shalom، الحاصل على شهادة الدكتوراه، وباحث ما بعد الدكتوراه، وأحد المؤلفين الأساسيين للورقة الجديدة: "ومن المُلفت للنظر مشاهدة كيف تتعطل وظيفة الخلايا العصبية باتساق نتيجة هذه الأنواع المختلفة من الطفرات التي شوهدت لدى مرضى التوحد، لقد أثرت جميع الطفرات على القنوات بطرق تختلف قليلا عن بعضها البعض، ولكنها غالبا ما كانت تؤثر على الخلايا العصبية بنفس الطريقة تمامًا".

 

الجين SCN2A – والذي كان من أوائل الجينات المرتبطة باضطرابات طيف التوحد المكتشفة بخرائط جينومية لكامل الإكسونات- يشفر لقناة صوديوم بروتينية تدعى NaV2.1 وهي هامة جدًا بالنسبة لقدرة الخلية العصبية على التواصل الكهربائي، وبشكل خاص في المراحل المبكرة من تطور الدماغ. NeuroscienceNews.com image is adapted from the UCSF press release
الجين SCN2A – والذي كان من أوائل الجينات المرتبطة باضطرابات طيف التوحد المكتشفة بخرائط جينومية لكامل الإكسونات- يشفر لقناة صوديوم بروتينية تدعى NaV2.1 وهي هامة جدًا بالنسبة لقدرة الخلية العصبية على التواصل الكهربائي، وبشكل خاص في المراحل المبكرة من تطور الدماغ. NeuroscienceNews.com image is adapted from the UCSF press release


وتشير نمذجات إضافية أجريت لنمذجة تأثير العيوب في قنوات NaV2.1 على الخلايا العصبية الناضجة مقابل الخلايا غير الناضجة بأن الطفرات المرتبطة بالتوحد سيكون لها تأثير كبير في الدماغ قيد التطور، إذ أنَّ اعتماد الخلايا العصبية على قنوات NaV2.1 يتوقف حين نضوجها، وهذه النتيجة متسقة مع الفكرة بأن التغييرات العصبية المسببة للتوحد تحدث في وقت مبكر في الأجنة أو قبل عمر السنة، الأمر الذي اقترحه ستات وساندرز وزملاءهما سابقًا.

 

هل بإمكان عيوب SCN2A أن تحل الغموض الذي يكتنف التوحد؟


تمثل هذه الدراسة خطوة أولى في فهم كيف تؤدي الطفرات في SCN2A إلى داء التوحد وتأخر النمو، وهو الأمر الذي يأمل الباحثون أن يكون مفيدًا في كلا الحالتين بشكل مباشر بالنسبة للعائلات التي لديها مرضى يمتلكون هذه الطفرات كما تقود أيضًا وبشكل أكثر عمومًا إلى فهم أفضل لآليات اضطرابات طيف التوحد.

ويقول بيندر: "ترسِّخ هذه النتائج حالة SCN2A كأحد أهم الجينات في داء التوحد، وتعطينا مكانا للبدء باستكشاف كيف تؤدي التغيرات في المراحل المبكرة لتطور الدماغ إلى هذا الوضع بدقة".

وخطوة هامة أخرى، على حد قول الباحثين، وهي فهم ما إذا كان من الممكن التنبؤ بشدة التوحد وتأخر النمو بواسطة نوع الطفرة في SCN2A التي لدى المريض، وهو بحث يتطلب تعاونًا وثيقًا بين العلماء والعائلات المتأثرة بهذه الطفرات.

والدراسة الجديدة هي مثال ممتاز عن العمل بعقلية متعددة التخصصات لمعهد ويل الجديد لعلوم الأعصاب في جامعة سان فرانسيسكو، ويضيف ساندرز:" لقد خضتُ أنا وكيفن هذه المسألة من زوايا مختلفة تمامًا- من زاوية وراثية ومن زاوية علم الأعصاب، فحين تقوم بتجميع أناس من خلفيات مختلفة، كما يفعل معهد ويل، ينتهي بك المطاف بالعثور على قصص كهذه: نتيجة واضحةٌ وضوح الليل والنهار، ولم نكن لنراها بدون هذا التعاون".
 

الملاحظات:


[1] حجر رشيد، هو حجر اكتشف بالقرب من مدينة رشيد في مصر، ويقدم نصًا قديمًا بثلاث لغات: المصرية القديمة والديموطيقية واليونانية القديمة، ويشكل مفتاحًا مهمًا لفهم الهيروغليفية المصرية، ومن هنا جاء التشبيه.


[2] الترتيب الجينومي لكامل الإكسومات، هو طريقة يستطيع بها العلماء معرفة التسلسل الجيني لكامل الجينات التي تُترجم في الجينوم (ومجموع الجينات التي تترجم في الجينوم تدعى بالإكسوم).

إمسح وإقرأ

المصادر

شارك

المساهمون


اترك تعليقاً () تعليقات