الثقوب السوداء وإشعاع هوكينغ

تنبأت النظرية النسبية العامة لألبرت آينشتاين Albert Einstein بظاهرة "الثقوب السوداء"، والتي نُشرت في عام 1916.

في الواقع، اقترح عالم الفلك البريطاني الهاوي جون ميشيل John Michell فكرة الثقب الأسود في عام 1783 (وبشكل مستقل اقترح الفكرة الفرنسي بيير سيمون لابلاس Pierre-Simon Laplace عام 1795). والغريب في الأمر، عدم إيمان آينشتاين نفسه بوجود الثقوب السوداء، ومقاومته بقوةٍ لهذه الفكرة رغم أن نظريته الخاصة تنبأت بها.

في الوقت الراهن، يدعم المجتمع العلمي بقوةٍ فكرة وجود الثقوب السوداء بالفعل، وأنها في الواقع واحدةٌ من أهم سمات الكون، التي اكتشفها علماء الفلك بطريقة غير مباشرة وبطرق مختلفة لا تدع مجالاً للشك بوجودها.

عادة ما يُنسب الفضل في صياغة هذا المصطلح إلى الفيزيائي الأمريكي جون ويلر John Wheeler في عام 1967، وهو بالتأكيد أفضل من المصطلح الأصلي "الأجسام المنهارة تماماً بالجاذبية gravitationally completely collapsed objects"، ويُعتبر الثقب الأسود منطقة من الفضاء فيها مجال الجاذبية قوي جداً لدرجة أنّ لا شيء بما في ذلك الإشعاع الكهرومغناطيسي مثل الضوء المرئي يمكنه الهروب من قوة جاذبيته، حيث يمثل حفرةً لا قاع لها في نسيج الزمكان space-time.

يوجد في مركز الثقب الأسود ما يسمى "متفرد singularity" صغير ذو كثافة غير محدودة، وهو مكانٌ تنهار فيه قوانين الفيزياء الطبيعية، وكما قال الممثل الكوميدي ستيفن رايت Steven Wright ذات مرة: "الثقوب السوداء هي مكانٌ قسّم فيه الرب على العدد صفر".

وكان عمل آينشتاين يصبّ أيضاً في قلب نظرية الثقوب الدوديّة wormholes، أو "الجسور" كما سماها، وهي الفكرة التي تتمحور حول وجود خاصية طبوغرافية افتراضية في الزمكان، والتي هي في الأساس طريقٌ مختصر عبر المكان والزمان، يربط بين أجزاء مختلفةٍ من الكون (أو حتى أكوان مختلفة)، وقد شاع استخدام الفكرة إلى حد كبير بين كُتّاب الخيال العلمي على مر السنين، على الرغم من وجود الكثير من العمل النظري لدعم وجودها.

يُعرف أبسط نوع من الثقوب السوداء، التي لا يدور مركزها، ولها متفرد وأفق حدثٍ فقط باسم ثقوب شوارزشيلد السوداء نسبة إلى الفيزيائي الألماني كارل شوارزشيلد Karl Schwarzschild الذي كان رائداً في النظرية المبكّرة جداً للثقوب السوداء في الأعوام الأولى من القرن العشرين، إلى جانب ألبرت آينشتاين.

في عام 1958، نشر ديفيد فينكلشتاين David Finkelstein ورقةً علمية، استناداً إلى عمل آينشتاين وشوارزشيلد، يصف فيها فكرة "الغشاء أحادي الاتجاه" التي أثارت اهتماماً جديداً بنظرية الثقوب السوداء (على الرغم من أن المصطلح نفسه لم يُصغ حتى محاضرة ألقاها جون ويلر في عام 1967).

في عام 1963، اكتشف النيوزيلندي روي كير Roy Kerr حلاً لمعادلات آينشتاين للمجال في النسبية العامة التي وصفت جسماً دواراً، واقترح أنّ أيّ شيءٍ ينهار سوف يستقر في نهاية المطاف في ثقبٍ أسود دوار، ويُعتقد الآن أنه من المحتمل أن هذا هو الشكل الأكثر شيوعاً في الكون، حيث إن الثقب الأسود الدوار سينتفخ نحو الخارج بالقرب من خط استوائه بسبب دورانه (كلما زادت سرعة الدوران، زاد الانتفاخ).

في منتصف الستينيات من القرن العشرين، كرّس عالم الرياضيات الإنجليزي الشاب روجر بنروز Roger Penrose نفسه لدراسة الثقوب السوداء، وفي عام 1965، أثبت نظريةً هامة أظهرت أن انهيار الجاذبية لنجم كبير يحتضر يجب أن ينتج عنه متفرد تنهار عنده النسبية العامة الكلاسيكية، حيث لا يمكن أن يكون الزمكان مستمراً.

كما أثبت بنروز وويلر أنّ أي نجمٍ غير دوار، مهما كان شكله الأولي وهيكله الداخلي معقدان، سينتهي به المطاف بعد انهيار الجاذبية إلى ثقبٍ أسود كرويٍ تماماً، يعتمد حجمه فقط على كتلته.

ثقبٌ أسود دوار (على اليمين) وثقبٌ أسود غير دوار (على اليسار) حقوق الصورة: Chandra X-Ray Observatory
ثقبٌ أسود دوار (على اليمين) وثقبٌ أسود غير دوار (على اليسار) حقوق الصورة: Chandra X-Ray Observatory
في أواخر الستينيات، تعاون بنروز مع صديقه وزميله في جامعة كامبريدج، ستيفن هوكينغ Stephen Hawking، لدراسة الثقوب السوداء بعمقٍ أكبر، حيث طبّقا نموذجاً رياضياً جديداً ومعقداً مُشتقاً من نظرية أينشتاين للنسبية العامة، والذي أدى في عام 1970 إلى إثبات هوكينغ لأولى نظريات المتفردات المتعددة.

قدمت هذه النظريات مجموعة من الشروط الكافية لوجود متفرد للجاذبية في الزمكان، وأظهرت أنّ المتفردات هي في الواقع سمةٌ عامةٌ للنسبية العامة. على الرغم من أنه قد يبدو جسماً معقداً جداً وغريباً وربما غير بديهيٍّ، إلا أنه يمكن وصف الثقب الأسود بثلاث كميات فقط: مقدار الكتلة الداخلة إليه ومدى سرعة دورانه (زخمه الزاوي) وشحنته الكهربائية.

أصبح هذا يعرف باسم "نظرية انعدام الشعر" نسبةً إلى تعليق جون ويلر بأنّ "الثقوب السوداء ليس لها شعر"، والتي قصد بها أنّ المعلومات الأخرى حول المواد التي شكلت الثقب الأسود (والتي استعار بكلمة الشعر لوصفها) لا يمكن الوصول إليها بشكل دائمٍ بالنسبة للمراقبين الخارجيين في أفق الحدث الخاص بالثقب الأسود.

أثبت براندون كارتر وستيفن هوكينغ نظرية انعدام الشعر رياضياً في أوائل السبعينيات، مُظهرين أنّ حجم وشكل الثقب الأسود الدوار لا يعتمدان إلا على كتلته ومعدل دورانه، وليس على طبيعة الجسم الذي انهار لتشكيله.

كما اقترحوا أربعة قوانين لميكانيكا الثقب الأسود، بصورةٍ مشابهةٍ لقوانين الديناميكا الحرارية، من خلال ربط الكتلة بالطاقة، والمساحة بالإنتروبيا، والجاذبية السطحية بدرجة الحرارة.

في عام 1974، صدم هوكينغ عالم الفيزياء من خلال إظهار أنّ الثقوب السوداء تقوم في الواقع بخلق وبعث جسيمات دون ذرية، والتي تعرف اليوم بإشعاع هوكينغ، حيث يستمر ذلك حتى تستنفد طاقتها وتتبخر بالكامل، وفقاً لهذه النظرية، ليست الثقوب السوداء سوداء بالكامل، ولا تدوم إلى الأبد.

أظهر هوكينج كيف أنّ مجال الجاذبية القوي حول الثقب الأسود يمكن أن يؤثر على إنتاج أزواج مطابقة من الجسيمات والجسيمات المضادة، كما يحدث طوال الوقت في الفراغ وفقاً لميكانيكا الكم. إذا تم إنتاج جسيماتٍ خارج أفق الحدث لثقب أسود، فإنه من الممكن أن يهرب العضو الإيجابي من الزوج (على سبيل المثال، البوزيترون) وسيظهر للراصد كإشعاعٍ حراري منبعثٍ من الثقب الأسود، في حين أن الجسيم السلبي (على سبيل المثال الإلكترون، بطاقته وشحنته السالبتين) قد يسقط متجهاً نحو الثقب الأسود، وبهذه الطريقة سوف يخسر الثقب الأسود كتلته تدريجياً. 

ربما كان هذا واحداً من أولى الأمثلة على الإطلاق لنظرية جمعت على الأقل بين ميكانيكا الكم والنسبية العامة إلى حد ما.


إشعاع هوكينغ حيث تُنتج أزواج الجسيمات قُرب الثقب الأسود. حقوق الصورة: University of St Andrews
إشعاع هوكينغ حيث تُنتج أزواج الجسيمات قُرب الثقب الأسود. حقوق الصورة: University of St Andrews
على الرغم من ذلك، فإن النتيجة الطبيعية لهذا، هي ما يسمى بمفارقة المعلومات Information Paradox أو مفارقة هوكينغ Hawking Paradox، حيث يبدو أن المعلومات المادية (التي تعني الهوية المميزة وخصائص الجسيمات التي تدخل في ثقب أسود) تُفقد بالكامل في الكون، في تعارضٍ مع قوانين الفيزياء المقبولة (يشار إليها أحيانا باسم "قانون حفظ المعلومات"). 

دافع هوكينغ بقوة عن هذا التناقض ضد حجج ليونارد سوسكيند Leonard Susskind وغيره لمدة ثلاثين سنة تقريباً، إلى أن تراجع عن ادعاءاته في عام 2004، وأقر بشكلٍ فعال بهزيمته لسوسكيند فيما أصبح يعرف باسم "حرب الثقب الأسود".

يقول هوكينغ في أحدث تصريحاته المنطقية إنّ المعلومات محفوظة في الواقع، على الرغم من أنها ربما ليست محفوظةً في كوننا المرصود ولكن في أكوان متوازية أخرى في الأكوان المتعددة ككل.

لسوء الحظ، فإن حل سوسكيند المقترح هو أكثر صعوبة، ومن المستحيل تقريباً التفكير فيه أو تفسيره بطريقةٍ مفهومة، حيث اقترح أنه عندما يقع جسم ما في الثقب الأسود، فإن نسخةً من المعلومات التي تشكله تتوزع في بُعدين حول حافة الثقب الأسود.

علاوة على ذلك، يعتقد سوسكيند أن عملية مشابهة تحدث في الكون ككل، الأمر الذي يثير فكرةً مثيرةً إلى حد ما، وهي أنّ ما نعتقد أنه واقع ثلاثي الأبعاد هو في الواقع شيءٌ يشبه التمثيل المجسم للواقع "الحقيقي"، وهو في الواقع موجودٌ في بعدين حول حافة الكون.

كما من المحتمل أنّ الثقوب السوداء "البدائية" أو "الصغيرة" قد نشأت في ظروفٍ خاصة خلال اللحظات الأولى بعد الانفجار العظيم، ربما بأعداد كبيرة. ومع ذلك، لم تُرصد أي ثقوبٍ سوداء صغيرة كهذه، في الواقع سيصعب للغاية رصدها، وهي لا تزال ترتكز على التخمين إلى حد كبير. ومن المرجح على أي حال أنّ جميعها، ما عدا أكبرها، قد تبخرت بالفعل وصولاً إلى زمننا الحالي عن طريق بعث إشعاع هوكينغ.

ووفقاً لنظرية هوكينغ، فإن مقدار الكتلة المفقودة أكبر بالنسبة للثقوب السوداء الصغيرة، وبالتالي فإن الثقوب السوداء ذات الحجم الكمي ستتبخر خلال فتراتٍ زمنية قصيرةٍ جداً.

لكن يأمل العلماء أن يُعاد إنشاء هذه الثقوب السوداء الصغيرة تجريبياً في الشروط الصارمة لمصادم الهادرونات الكبير في سيرن CERN، والذي من بين أمور أخرى، سوف يمنح المصداقية اللازمة لبعض التوقعات النظرية الحالية لنظرية الأوتار الفائقة super string theory فيما يتعلق بالجاذبية.

إمسح وإقرأ

المصادر

شارك

المساهمون


اترك تعليقاً () تعليقات