يمكنك الاستماع إلى المقال عوضاً عن القراءة
وهج ما بعد الانفجار العظيم

حين تنظر إلى سماء الليل، فإنك تنظر إلى الماضي. ضوءُ القمر ارتدّ عن سطحه منذ ما يقارب الثانيتين، والضوء من النجمة اللامعة المسمّاة بالنسر الواقع Vega قد غادرها منذ نحو 26 سنة. أما الضوء من مجرة أندروميدا فقد بدأ رحلته باتجاه تلسكوباتنا قبل مليونَي سنةٍ تقريبًا.


ولكن إلى أيّ مدى يمكننا رؤية الماضي؟ هل سيمكنك رؤية أوائل النجوم والمجرّات بمساعدة تلسكوبٍ كبيرٍ كفاية؟ وهل سيمكنك رؤية الضوء من وميض الانفجار العظيم بحدّ ذاته؟ إن الإجابة عن هذه الأسئلة هي ... بالكاد تقريبًا.

لقد اكتشف الفلكيون بواسطة التلسكوبات الراديوية ضوءًا خافتًا يملأُ الكون ويملك كلّ العلامات الواشية بالضوء الأول المنبثق من الكون الساخن بعد 380 ألف سنةٍ فقط من الانفجار العظيم (Big Bang).

كان الكون ساخنًا بعد الانفجار العظيم مباشرةً، بحرارةٍ تبلغ عدّةَ ملايين كلفن. وبدأ يبرد أثناء توسعه. ولكن لمئات آلاف السنين بقيت حرارته مرتفعةً جدًا بالنسبة لدمج البروتونات والإلكترونات من أجل تكوين الهيدروجين. ولذلك فإن الكون الباكر هو عبارةٌ عن ضبابٍ مُشعٍّ من الجسيمات تحت الذريّة المشحونة التي أطلقت الفوتونات في جميع الاتجاهات.

ثم انخفضت درجة حرارة الكون بعد نحو 380 ألف سنةٍ من الانفجار العظيم إلى ما يقارب 3000 كلفن والتي تُعتبر كافيةً لتستقر البروتونات والإلكترونات على شكل ذرات هيدروجين. ومع حبس الإلكترونات الفضولية بأمانٍ، انتشرت الفوتونات بحريّةٍ قُدُماً في أرجاء الكون، ما ملأ الكون الفتيّ بالأضواء الحمراء الباهتة والأشعة تحت الحمراء. ولا يزال بإمكاننا رصد بقايا هذه الأضواء حتى اليوم.

كان "الضوء الأول" تنبؤًا أساسيًا في نظرية الانفجار العظيم. وقد استنتج الفيزيائيون رالف ألفير Ralph Alpher وروبرت هرمان Robert Herman بأن هذا الضوء متمدّدٌ الآن إلى أطوالٍ موجيةٍ أطول بسبب توسّع الفضاء نفسه، وذلك في أربعينيات القرن الماضي. كما أظهرت حساباتٌ بسيطةٌ أن أمواج الضوء متمدّدةً بعاملٍ من ألف، ما يعني أن الأشعة تحت الحمراء كانت في ذلك الوقت أشعةً ميكرويةً (صغرية) مماثلةً لجسمٍ مُشعٍ تقارب حرارته 3 كلفن (ثلاث درجاتٍ فوق الصفر المُطلق). وحسب استنتاج ألفير وهيرمان، يبدو أن ضوءًا كهذا يأتي من كل مكانٍ بالكثافةِ نفسها بالضبط تقريبًا.

طيف إشعاع الخلفية الكونية الميكروي
طيف إشعاع الخلفية الكونية الميكروي


في البداية تم تجاهل هذا التنبؤ الجريء لبقايا الإشعاع، فقط لأنه لم توجد تلسكوباتٍ راديويةٍ لكشفه في أوائل أربعينيات القرن الماضي. ولكن حين نضجت التلسكوبات الراديوية في الخمسينيات والستينيات، بدأ علماء الفلك بالبحث عن هذه الآثار المتبقية من الانفجار العظيم. وفي عام 1964 بدأ فريقُ علماء فلكٍ فطنٌ للغاية من جامعة برينستون Princeton University يضمُّ جيم بيبلز Jim Peebles وروبرت ديك Robert Dicke بحثه عن إشعاع الخلفية الكونية الميكروي the cosmic microwave background او اختصاراً (CMB).

ولكن هنالك من سبَقهم إلى ذلك، فقد تلقّى روبرت ديك عام 1965 اتصالًا غيرَ متوقعٍ من عالِمين من مختبرات بيل Bell Labs الواقعة في كراوفورد هيل Crawford Hill في ولاية نيوجيرسي، وهما آرنو بينزياس Arno Penzias وروبرت ويلسون Robert Wilson اللذان كانا يختبران هوائيًّا جديدًا من أجل اتصالات الأقمار الصناعية التجارية. وقد أربكتهم إشاراتٌ ميكرويةٌ باهتةٌ بَدَت آتيةً من كلّ مكانٍ من السماء وتطابقت مع حرارة 3 كلفن.

 

جرّب العالمان كلّ شيءٍ للتخلّص من هذه الإشارات الغريبة، بما في ذلك إزاحة فضلاتِ حَمامةٍ عالقةٍ في طرف الهوائي، ولكن الإشارات بقيت ولم تختفِ. فسألا روبيرت ديك عمّا إذا كان يملك فكرةً عن ماهيّة هذه الإشارات. أدرَك روبيرت ديك في الحال بأن فريق مختبرات بيل قد سبقوه. حاز كلٌّ من آرنو بينزياس وروبرت ويلسون جائزة نوبل في الفيزياء عام 1978 رغم أنهما قد وجدا إشعاع الخلفية الكونية الميكروي عن طريق الصدفة، في حين لم يحصل عليها روبرت ديك أو جيم بييبلس.

روبرت ويلسون (اليسار) وآرنو بينزياس خلفهم الهوائي الذي استخدماه لإيجاد إشعاع الخلفية الكونية الميكروي.
روبرت ويلسون (اليسار) وآرنو بينزياس خلفهم الهوائي الذي استخدماه لإيجاد إشعاع الخلفية الكونية الميكروي.


أصرّ المُشكّكون بنظرية الانفجار العظيم على تفسيراتٍ بديلةٍ لهذا التوهّج في الخلفيّة الكونيّة، ولكن نظرية الانفجار العظيم تفسّر اثنين من ملامح إشعاع الخلفية الكونية الميكروي بأفضل دقّةٍ. أولًا، يبدو شعاع الخلفية الكونية الميكروي كجسمٍ أسود مثاليٍّ مشعٍّ بحرارة 2.725 كلفن. ثانياً، إن حرارةَ إشعاع الخلفية الكونية الميكروي متماثلةٌ على طولِ وعِرض السماء لدرجةٍ تثير الدهشة، ما يعني بأن الكون الأول (المُبكِّر) كان أملسًا أيضًا لدرجةٍ تثير الدهشة.

 

ولكن هنالك فروقاتٌ صغيرةٌ تُقدّر بنحو جزئين من 10 آلافٍ في إشعاع الخلفية الكونية الميكروي، وقد تنبأت حساباتٌ دقيقةٌ حسب نظرية الانفجار العظيم بهذه الفروقات أيضًا. ولهذه الفروقات آثارٌ هائلةٌ على تطوّر الكون من حساءٍ ساخنٍ إلى غازٍ ناعمٍ إلى كتل النجوم والمجرّات التي نراها اليوم. لكن تلك قصّةٌ نتركها ليومٍ آخر...

وبالمناسبة، يمكنك رؤية إشعاع الخلفية الكونية الميكروي بنفسك على شاشة التلفاز (لا، أنا لا أمزح!). افصل الكابل واسحب الإشارة من الهوائي (حتى وإن لم يكن متّصلًا)، ثم اضبط التلفاز على محطةٍ بِلا إشارة. سترى "ثلوجًا" سوداء وبيضاء على شاشة التلفاز. معظم هذه الثلوج هي مجرّد ضجيج، ولكن قرابةَ 5-10% منها سببه إشعاع الخلفية الكونية الميكروي.

إمسح وإقرأ

المصادر

شارك

المصطلحات
  • إشعاع الخلفية الكونية الميكروي (cosmic microwave background): أو اختصاراً CMB، وهو الإشعاع الحراري الذي خلفه ورائه الانفجار العظيم، وهي موجودة في كل الاتجاهات بالكثافة نفسها، وتعادل درجة حرارة 2.725 درجة كلفن.

المساهمون


اترك تعليقاً () تعليقات