تعتبر الكاميرات الرّقميّة العاديّة جيدة في التقاط صور محرجة للأصدقاء وكذلك أوّل قبلة للزوجين، لكن التقاط صور لمجرّات خافتة حقاً تبعد ملايين السنين الضوئيّة يتطلّب إدخال تعديلات جديّة عليها.
يعمل علماء من الولايات المتّحدة، والبرازيل، وإسبانيا والمملكة المتحدة على صناعة كاميرا ذات قدرة فائقة بهدف استخدامها في عملية المسح بحثاً عن الطاقة المظلمة Dark energy survey أو اختصاراً DES، بسعر 50 مليون دولار. ستتم عملية المسح بواسطة كاميرا ذات دقة تبلغ 570 ميغا بيكسل (قارنها بكاميرا آيفون 4 ذات الـ5 ميغا بيكسل) محمولة على تلسكوب يوجد في تشيلي. ستسجل الكاميرا التي هي بحجم سيّارة سمارت الضوء القادم من المجرّات البعيدة والمستعرات العظمى بشكل متقطّع وعلى مدى خمسة أعوام، ويتوقع العلماء أنّ هذه المعلومات ستلقي الضوء على شيء غامض يُدعى الطاقة المظلمة.
تُدعى الطاقة المظلمة بهذا الامس لأنّها حتّى الآن غير مرئيّة بالنّسبة لنا –لا أحد يعرف ماهيتها، أو حتّى إن كانت موجودة أصلًا. في العشرينات من القرن الماضي، أظهرت بيانات جُمعت بواسطة الفلكي إدوين هابل Edwin Hubble أنّ الكون يتوسّع منذ الانفجار الكبير The Big Bang، مما أدى إلى جدل في المجتمع العلمي وإلى طرح أسئلة من قبيل: هل سيستمر الكون في التوسّع إلى الأبد؟ وهل ستعكس الجاذبيّة في النهاية هذا التوسّع لتسبب الانسحاق العظيم (big crunch)؟ أم أن الكون سيصل إلى حالة من التوازن في مكانٍ ما في الوسط؟.

في العام 1998، أعلن فريقان من الفلكيين عن اكتشاف مفاجئ مفاده أن الكون يتوسع بشكل أسرع حقيقةً مما كان عليه. أحدث هذا الأمر ثورةً في الطريقة التي اعتقد بها العلماء حول الكون الآخذ في الاتساع، فأنشأوا نماذج جديدة لشرح الظاهرة. يتضمن أحد النماذج الأكثر قبولاً وجود نوع من الطاقة لم يتم رصده على الإطلاق، وتُظهر الحسابات أنّ الطاقة المظلمة هذه قد تشكل 75% من الطاقة في الكون!
إذاّ، كيف يمكن لكاميرا رقميّة ضخمة أن تساعدنا في دراسة الطّاقة المظلمة؟
عندما تعلم كم تبعد سيّارةُ عن نقطة ما مُحدّدة، والسرعة التي تسير بها، تستطيع أن تحدّد أين كانت السّيارة في أي وقت مُعطى منذ مغادرتها. على سبيل المثال، إذا كان بوب على بعد 50 ميلاً عن البيت ويقود بسرعة ثابتة تقدّر بـ 25 ميلاً في السّاعة، نعلم أنّه بعد 30 دقيقة من مغادرته المنزل سيكون على بعد 12.5 ميلًا عنه (25 ميلًا\ساعة × 0.5 ساعة)، وإن كان بوب يسير على خطٍ مستقيم، فبإمكاننا تحديد مكانه بدقّة عند أيّ وقت معطى.

وبشكل مشابه، إذا أردت معرفة مكان مجرّة ما بالنسبة إلى الأرض منذ ملايين أو مليارات السنين الماضية، فإنك تحتاج إلى معرفة كم تبعد هذه المجرّة عن الأرض، وما هي السرعة التي تسير بها بعيداً عنها. فإذا كان بإمكانك معرفة ذلك لمجموعة ما من المجرّات، يمكنك عندها تشكيل خريطة ممتازة لمظهر الكون في أيّ وقتٍ من الماضي. وهذا هو الهدف من مسح الطاقة المظلمة.
سيستخدم الفلكيون معلوماتٍ مثل السطوع الظاهري لمستعر أعظم من نوع Ia، والتّغيّر في بنية الكون لتحديد المسافات إلى المجرّات. ولتحديد سرعة حركة مجرّةٍ ما، سيقارنون طيفها الضوئي مع ما سيكون عليه طيفها فيما إذا كانت ثابتة (انزياح دوبلر خاصتها Doppler shift). وبالطبع، كل هذه المعلومات وأكثر سوف تُلتقط بواسطة كاميرا الطّاقة المظلمة واختصاراً DEScam ، مما يمنحنا صورةً مفصّلةً عن كيفية توسّع الكون مع مرور الوقت.
تعد كاميرا الطاقة المظلمة في الواقع كاميرا رقميّةً كبيرة وحسّاسة جداً. وعلى غرار نيكون كولبيكس Nikon Coolpix وكوداك إيزيشير Kodak Easyshare، تمتلك هذه الكاميرا عدساتٌ للتّركيز والتقريب وكاشفات تحوّل الإشارات الضوئيّة الواردة إلى قيمٍ رقميّة تتوافق مع وحدات البيكسل (Pixels) الفردية. وبالطبع، تمتلك هذه الكاميرا العديد من الميزاتٌ الخاصّة كحساسيتها للأشعة الحمراء وما تحت الحمراء ومجال رؤيتها الواسع.

ستلتقط كاميرا الطاقة المظلمة الضّوء من مجرّات بعيدة عنا، وبالتالي خافتة، لذا يتطلب القيام بذلك حساسية فائقة. يوجد لدى الكاميرات الرقميّة العاديّة كاشف وحيد مع قوة كشف تراوح بين 5 إلى 20 مليون بيكسل (مليون بيكسل = 1 ميغا بيكسل)، لكن لدى كاميرا الطّاقة المظلمة 74 كاشفاً، كل واحد منها مكوّن من ملايين البيكسلات، وهذه الكواشف حسّاسةٌ للغاية لذا يجب إبقاءها عند درجة حرارة تبلغ 100° سيلسيوس للحد من الضجيج في الخلفيّة.
ستركّب الكاميرا على تلسكوب يبلغ قطر عدسته 4 أمتار موجود في مرصد سيرو تولولو في تشيلي. وفي غضون السنوات الخمس القادمة، ستعمل كاميرا الطاقة المظلمة بمجموع 525 ليلة، كما أنها ستصور حوالي 300 مليون مجرّة في النصف الجنوبي من الكرة الأرضيّة. هذا وسيقوم حاسوب فائق بمعالجة هذا الكم الهائل من البيانات، عبر تمييز الأجسام وتشكيل قاعدة بيانات من المعلومات حول كل من السطوع، والموقع وغيرها من خصائص المجرّات. وستحلّل فرق من الباحثين في مشروع المسح بحثاً عن الطاقة المظلمة النتائج آملين في ظهور صورة واضحة لكيفية توسّع الكون عبر الزمن.
وسيجعل أيضاً فريق الدراسة البيانات متاحة للعامّة، بحيث يمكن للناس عبر العالم المساعدة في التحليل. إنّ الطاقة المظلمة هي واحدة من أكبر أسرار العلم حالياً، وتسليط بعض الضوء عليها سيكون إنجازاً عظيماً، وسواء دعمت نتائج الدراسة وجود الطاقة المظلمة أم كشفت عن مفاجأةٍ اخرى تجعل الفلكيين يعيدون النظر في نماذجهم، فإنها ستكون حتماً مثيرة للإعجاب.