أربعة عقود من الجليد البحري من الفضاء: البداية

 

من الفضاء, أربعة عقود من الجليد البحري

ـ البداية

 

واحدة من أبرز علامات تَغيُّر المُناخ لم تكن ظاهرة منذ سنوات حتى قبل بضعة عقود.

 

الغطاء الجليدي البحري الذي يغطي المحيط القطبي الشمالي قد تغير بشكل كبير، خاصة في السنوات ال 15 الماضية. أصبح الجليد أرق وأكثر ضعفاً؛ خلال موسمه الصيفي، يغطي الآن مساحة أقل بما يزيد عن مليون ميل مربع مما كان عليه في أواخر السبعينات. هذا الجليد المفقود يكفي لتغطية ولايات ألاسكا و كاليفورنيا و تكساس كلها.

 

يتمركز أهم جزء من القصة التي تحكي كيف شهد العالم ووثّق هذا التغيير، على العمل الدقيق الممتد على عقود، لمجموعة صغيرة من العلماء في مركز غودارد لرحلات الفضاء التابع لناسا.

 

ليالٍ طويلة في الغرف المركزية، والفحص المزدوج ثم الثلاثي لمطبوعات الكمبيوتر، ومعالجة وإعادة معالجة البيانات - حتى نُشرت الأطالس الدقيقة الأولى من نوعها للجليد البحري في العالم.

 

قالت احدى كبار العلماء في مركز غودارد التابع لناسا، كلير باركنسون Claire Parkinson : "كان الجليد واحداً من متغيرات النظام الأرضي التي لم نستوعب منه إلا القليل، أما الآن بفضل الأقمار الصناعية، أصبح الجليد واحداً من أفضل المكونات للدراسة في هذا الكوكب".

 

-الهبوط إلى الأرض

 

في أوائل السبعينات، حصدت ناسا الجوائز بفضل إرسالها للإنسان على سطح القمر، كان البرنامج الذي يعمل وقتها هو أبولو، وكان رواد الفضاء وجه ناسا للعالم.

 

ولكن في زوايا أقل شهرة من الوكالة، وضع العلماء حجر الأساس للعصر الحديث باستخدام الفضاء وسيلة للنظر إلى الأرض. ويعتقد عدد قليل من العلماء أنه يمكن استخدام هذا المنطلق لرسم خرائط لجليد البحر المحيد بالقطب الشمالي والجنوبي، الشيء الذي كان مستحيل من قبل.

 

كانت ناسا حريصة على المقدار الذي يمكن تعلمه حول الأرض من المنظور الجديد الذي تقدمه الأقمار الصناعية، حيث كان الجليد واحداً من المتغيرات المناخية الهامة التي فحصها.

 

يتغير الجليد البحري دائماً، يُدفع ويُسحب بواسطة تيارات المحيط والرياح، والذوبان والتجميد، اعتمادا على الموسم. ومن المستحيل لنا أن نعلم ما هي المساحة التي يغطيها بدون الأقمار الصناعية، بالإضافة إلى الشكل الذي يأخذه وتغيراته الموسمية.

 

أول الأقمار التي أخذت نظرة خاطفة على غطاء الجليد البحري هو القمر الصناعي مراقب الأشعة تحت الحمراء (تيروس) الخاص بالطقس، وقد أطلقته ناسا مع وكالات أخرى عام 1960. ولكن، كانت هذه المركبة الفضائية تملك فقط أجهزة الاستشعار بالأشعة تحت الحمراء والمرئية. اقتصرت قدرات هذا القمر على توفير تغطية مستمرة لهذا الجليد البحري بسبب غطاء السحابة السميك، بالإضافة إلى الشتاء القاسي والمظلم في القطب الشمالي.

 

لحل هذه المشكلة، طوّر علماء من مركز غودارد التابع لناسا، آلة قادرة على تسجيل أشعة المايكروويف الطبيعية الآتية من الكائنات الموجودة على سطح الأرض والغلاف الجوي. وبذلك أصبحت السحب لا تشكل أي عقبة، وأصبح الضوء غير ضروري.

 

أظهرت سلسلة من طائرات رحلات البحث في 1967 و1970 إمكاناتها؛ حيث بيَّن الطيران فوق جليد البحر القطبي الشمالي في طائرة ناسا، التناقض القوي بين المحيط الخالي من الجليد، والجليد البحري، عندما يتم الرصد بواسطة موجات الميكروويف.

 

تم تغيير اللعبة، وفقا لدون كافالْيِيري، وهو كبير علماء الجليد في وكالة ناسا، أوضح أنه يمكن التحقق من صحة الاختبارات المحمولة جواً في بداية الثمانينات. بالإضافة إلى إمكانية العلماء من حساب تركيزات الجليد البحري المقدرة داخل كل 18.6 ميل (30 كيلومتر) بيكسل من صور الأقمار الصناعية.

 

وقال كافاليري: "إنها المرة الأولى التي حصلنا فيها على نظرة شاملة لما يحدث في الغطاء الجليدي البحري، وذلك باستخدام الأقمار الصناعية، وقد وجدنا أن هناك تغيرات كبيرة بين السنوات إلى جانب التغيرات الموسمية''.

 

- إدراك البيانات

 

في حين كانت تتدفق البيانات حول مدى الجليد البحري من الفضاء إلى الأرض، كان عمل العلماء قد بدأ للتو. قدمت الأداة الفضائية الحديثة، والطاقة الحاسوبية المحدودة اليوم، الكثير من التحديات للعلماء قبل أن يتمكنوا من إنتاج خرائط دقيقة للجليد البحري.

 

كانت بعض الصور المقدمة حادة جداً، وكانت أخرى كثيرة العيوب، كما أشار جاي زوالي (Jay Zwally) أحد كبار العلماء في معهد غودارد، والذي كان مشرفاً على الفريق المراقب للعمليات العالمية للجليد البحري.

 

ثم أضاف هذا الأخير: "لم نعثر على سبب هذا الخلل المتقطِّع، ولكن كانت هناك تكهنات حول وجود قطعة صغيرة من القصدير داخل الأداة، التي من الممكن أن تمنع المعايرة الصحيحة للبيانات".

 

كانت هناك أيضا مشكلة في مقياس إشعاع المايكروويف لتحديد الموقع الجغرافي- ففي بعض الأحيان، يضع جزء من البيانات في المكان غير المناسب. أخيرا، وجد العلماء طريقة لإزالة البيانات المعيبة. وصف أحد كبار علماء الفريق جوزيفينو كوميسو (Josefino Comiso) أن هذه العملية شاقة جداً لأنه لا يمكن أن تتم رقمياً، وإنما يدوياً فقط.

 

استخدم العلماء أجهزة كمبيوتر مركزية، وتم الاحتفاظ بكافة البيانات على الأشرطة ذات 12 مسار. لم يكن هناك سوى واحد من ذلك الحواسيب ذات قيمة مليون دولار في حرم غودارد، وكان يعالج كافة البيانات من جميع الأقمار الصناعية في المدار الذي يسيطر عليه المركز.

 

لإلقاء نظرة على البيانات والميكروويف، أنتج العلماء أولا مطبوعات ورقية عرضها 18 بوصة. أنشأ "زوالي" برنامجاً لتحديد تركيزات حافة الجليد البحري. من هناك أنشأ الباحثون الأشرطة مع البيانات التي سيتم قراءتها بواسطة جهاز تسجيل فيلم يسمى "ديكومد"، والذي أنتج صوراً للجليد البحري.

وأضاف "كوميسو": " نظرنا إلى الصور حينئذ، وعرفنا المعلومات التي كانت لا تنتمي إلى هناك. على سبيل المثال، كنا نعلم أن الجليد البحري في القطب الجنوبي يحيط بالقارة وحافته مستمرة، ففي حالة وجود نمط يقطع حافة الجليد، نعرف بالتأكيد أن تلك البيانات خاطئة".

 

-أطالس الجليد البحري

 

بعد سنوات من العمل الدقيق، نشر عدد كبير من علماء الفضاء صوراً في إثنين من اطالس الجليد البحري. نشر أطلس القطب الجنوبي بقيادة "زوالي"، بينما نشر أطلس القطب الشمالي بقيادة "باركنسون". كانت هذه الصور الأولى من نوعها.

أعجب الاتحاد السوفييتي بهذه الصور كثيرا، وقام باستنساخها إلى صور ملونة. قد أصبح للأطالس تأثير فعال في تلك الفترة.

 

أظهرت هذه الصور كيف يختلف جليد البحر القطبي خلال المواسم والسنوات، يتم تحويل هذا النوع من البيانات اليوم إلى خرائط رقمية مباشرة ومتاحة على شبكة الإنترنت.

 

قالت باركنسون: ''كانت تستخدم السفن هذه الكتب أثناء سفرها لأن هذا الجليد البحري لم يظهر بشكل واضح في الماضي، لكن اليوم بإمكان أي شخص ما على سفينة أن يقوم بتحميل البيانات وجمعها على حاسوبه الخاص بعد ساعات من تجميع البيانات".

 

-نحو العصر الحديث

 

في عام 1978، أطلقت المحطة الفضائية قمراً صناعياُ حاملاً لضوء المايكروويف متعدد الإشعاع، مما سمح للعلماء تمييز الجليد الجديد نوعاً ما و الذي تشكل منذ فترة قصيرة، من الجليد القديم جداً و الذي تشكل منذ عدة سنوات.

 

وأشار بعض العلماء إلى وجود بعض المشاكل في هذا القمر الصناعي مع إمكانية حل هذه المشاكل في المستقبل القريب جداً وذلك باستخدام نظام إشعاع المايكروويف الخاص، وهو نظام محمول جواً على متن الأقمار الصناعية التابعة للأرصاد الجوية للولايات المتحدة الأمريكية.

 

كُلفت ناسا بعملية التطوير، و اختبار تكنولوجيا الأقمار الصناعية و قيمتها، ومن ثم تسليمها إلى وزارة الدفاع الأمريكية لعمليات طويلة الأجل.

 

وأشار العلماء إلى سهولة التعامل مع النظام الإشعاعي الجديد مقارنة بالأنظمة الأخرى، وذلك بسبب سهولة التعامل مع الخوارزميات، والبيانات الملتقطة، و سهولة تحليلها مع الحاجة إلى إجراء بعض التعديلات.

 

وتبقى الخوارزميات المكتشفة من قبل علماء غودارد الأكثر استخداما للكشف عن التغطية الجليدية البحرية.

 

قد تحقق الهدف من كيفية قياس وتسجيل تغيير مدى الجليد البحري في المنطقتين القطبيتين إلى حد كبير في نهاية ثمانينات القرن الماضي. ولكن في السنوات التالية، أصبح واضحاً أن الجليد البحري في القطب الشمالي يمر بتغيرات أساسية. سيصبح هذا السجل المنشأ حديثاً أكثر أهمية من مجرد أداة لملاحي السفن. و للعلماء سببا لتوقع مفاجأة كبيرة في المستقبل.

إمسح وإقرأ

المصادر

شارك

المساهمون


اترك تعليقاً () تعليقات