يمكنك الاستماع إلى المقال عوضاً عن القراءة
كيف يعرِّف الفلاسفة وعلماء الأعصاب الوعي

ما هو الوعي؟ شغل هذا السؤال أذهان الفلاسفة لآلاف السنين، ولا يزال يمثل لغزاً رئيسياً للعلم اليوم. اعتقد أرسطو أن الوعي موجود كسلسلة متصلة.

لذلك تمتلك النباتات روحاً مُغذيـَّـة تتحكم في نموها وتغذيتها وتكاثرها. تتمتع الحيوانات بهذه الخصائص وروحها الحساسة التي تسمح لها بإدراك الأشياء والتحرك ولديها مخاوف ورغبات. أخيراً يتمتع البشر بكل هذه الخصائص وروح عقلانية تسمح لنا بالتفكير.

في القرن السابع عشر الميلادي اقترح الفيلسوف رينيه ديكارت -مستوحى من عرض ويليام هارفي أن القلب يعمل كمضخة- أنَّ باقي الجسم يمكن اعتباره وكأنه آلة. جادل ديكارت بأنَّ قدرتنا على رؤية أنفسنا والعالم من حولنا بطريقة عقلانية أثبتت أن الوعي كان حقيقياً -أعتقد، إذن أنا موجود- ومع ذلك فإن تعقيد الروح يعني أن الآليات الكامنة وراءها، على عكس أولئك الذين ينظمون الجسد، سيظلون دائمًا غير معروفين للعلم.

في القرن الثامن عشر الميلادي أصبح الفلاسفة أكثر استعداداً لإخضاع الوعي للبحث العلمي. على سبيل المثال، جادل جون لوك وديفيد هيوم بأنه يمكن النظر إلى العقل على أنه لوح فارغ. يمثل كل وعي بشري تراكم الخبرات المكتسبة منذ الولادة. لم تشرح وجهة النظر هذه كيف يشعر كل عقل كظاهرة فردية موحدة، وليس مجرد كتلة من التجارب غير المترابطة. ومن خلال تجاهل دور الأنواع وهيكل الدماغ الفردي في تكوين الوعي، لم يشرح لوك وهيوم أيضاً سبب اختلاف شخصين مختلفين في نفس البيئة اختلافاً جذرياً من حيث القدرات والشخصية والمزاج. فشلت وجهة النظر هذه أيضاً في تفسير سبب الاختلاف الشديد للوعي البشري عن وعي الحيوانات.

تصور Gottfried Wilhelm Leibniz الأعمال الداخلية للعقل على أنها شيء مثل القطع المختلفة للآلات في مصنع نسيج، وهي ظاهرة جديدة مهمة في القرن الثامن عشر الميلادي. ومع ذلك، فقد كان يعتقد أنه حتى لو كان من الممكن استكشاف الأجزاء الداخلية للدماغ البشري بالتفصيل، في حين أن هذا سيكشف عن مكونات الدماغ المختلفة، فإنَّه لن يقربنا أكثر من فهم العقل البشري بسبب الطبيعة الذاتية العميقة للعقل البشري. العقل البشري كل وعي بشري.

ربما تعكس شكوك لايبنيز مدى ضآلة المعلومات حول الدماغ في القرن الثامن عشر. ولكن مع تقدم المعرفة العلمية حول هذا العضو، ليس من الواضح أنَّنَا أقرب إلى الفهم الصحيح للوعي. عبَّر الفيلسوف ديفيد تشالمرز عن هذا اللغز من خلال ما يسميه "مشكلة الوعي الصعبة". يعتقد تشالمرز أن علم الأعصاب الحديث قد يسمح لنا قريباً بفهم كيف نتعلم، ونخزن الذكريات، ونفهم الأشياء، ونتفاعل في لحظة مع مُنبِه مؤلم، أو تسمع اسمنا يتم نطقه عبر الغرفة في حفلة صاخبة. لكن تشالمرز يرى هذه الجوانب سهلة نسبياً للوعي لفك شفرتها، أو على الأقل مع إعطاء الوقت والمال الكافيين للبحث.

في المقابل، فإنَّ ما يسميه تشالمرز "المشكلة الصعبة" يتعلق بصعوبة تفسير المشاعر الذاتية العميقة التي لدينا جميعاً كأفراد لنقولها، أو غروب الشمس، أو عمل فني، أو الطريقة الخاصة جداً التي شعرنا بها عندما وقعنا في الحب، طفلنا الأول، أو أيّاً كان، من الناحية المادية البحتة. أدت الصعوبة في تفسير مثل هذه الذاتية إلى أن ينظر البعض إلى تفسير الوعي بطريقة مستحيلة في نهاية المطاف. لكن من المؤكد أن وجهة النظر هذه لا تأخذنا إلى أبعد مما وصلنا إليه مع ديكارت. وبالفعل، اتهم بعض النقاد تشالمرز وأنصار آخرين لنظرية "المشكلة الصعبة" بمحاولة التمسك بفكرة "الروح" التي ستكون غير معروفة إلى الأبد بالطرق العلمية، تماماً كما فعل ديكارت.

إن الجدلَ حول الطبيعة المادية للوعي البشري ليس فقط بين الفلاسفة من جانب وعلماء الأعصاب من جانب آخر. دانيال دينيت فيلسوف، لكنه دافع أيضاً عن وجهة نظر مادية صارمة للوعي. ينتقد دينيت نظريات الوعي البشري التي تعتمد في النهاية على بعض الهومونكولوس، أو "الرجل الصغير"، الذي يوجه الأشياء من داخل الدماغ. بدلاً من ذلك، يقترح دينيت نهجاً وهو "من أسفل إلى أعلى"، والذي ينظر إلى العقل البشري على أنه نتاج عمليات متطورة لاشعورية تتحد بطريقة ما لتوفر مظهراً فردياً.

انتقد دينيت أيضاً نظريات الوعي البشري التي تعتمد على ما يسميه "الخطافات السماوية". تفسيرات التعقيد التي لا تُبنى على طبقات أبسط وأقل. ومع ذلك ومن المفارقات من وجهة نظره الخاصة للوعي أنَّ دينيت يستخدم ما يمكن أن أعتبره سكاي هوك، أي "الميمات". في الوقت الحاضر، يشير هذا المصطلح عادة إلى تلك الصور أو مقاطع الفيديو، غالباً ما تكون مضحكة، أو جديرة بالملل، أو تحمل بعض الرسائل الحياتية، التي تنتشر بسرعة على وسائل التواصل الاجتماعي.

ولكنْ قُدِمَ هذا المصطلح لأول مرة في السبعينيات من قبل دعاة التطور مثل ريتشارد دوكينز الذي جادل بأنه مثلما تنتشر الجينات في مجموعة الجينات بالقفز من الجسم إلى الجسم عبر الحيوانات المنوية أو البويضات، فإن الميمات تنتشر في تجمع الميمز عن طريق القفز من الدماغ إلى الدماغ عبر عملية ما. بالمعنى الواسع، يمكن أن يطلق عليها التقليد بصفته وصفاً لكيفية انتشار الصور الشائعة بسرعة عبر الإنترنت، مثل العدوى الفيروسية تقريباً، كانت هذه رؤية نبوية وثاقبة بشكل ملحوظ.

لكن استخدام الميمات لشرح كيفية عمل الوعي البشري هو كما أعتقد مثالي لأنه يرى الأفكار ككيانات مستقلة منفصلة عن العقول التي تسكنها عندما يكون ما نحتاج إليه حقاً في إنشاء نظرية مادية حقيقية للوعي هو إظهار كيف تنشأ الأفكار داخل الدماغ. وهنا، تعتبر نقطة تشالمرز حول مشكلة "صعبة" في أبحاث الوعي ذات صلة.

نقد آخر يمكن للمرء أن يوجهه إلى دينيت هو أنه حتى لو كان أسلوبه "التصاعدي" الذي يرى الوعي كشيء ينبثق من كتلة من النبضات العصبية اللاواعية صحيحاً، فإنه لا يزال يترك تفسير الطبيعة الذاتية العميقة للوعي البشري الفردي.

إمسح وإقرأ

المصادر

شارك

اترك تعليقاً () تعليقات