سلط علماء الذاكرة الضوِء على حالة انتقالية في الذاكرة عند البشر.
من المعروف أن الذكريات الجديدة (كاسم شخص التقيت معه للتو، على سبيل المثال) تحفظها الذاكرة لثواني فيما يسمى بالذاكرة العاملة working memory، وخلال ذلك تستمر الخلايا العصبية للدماغ في عملها. فإذا كان الشخص مهماً بالنسبة لك فسيدخل اسمه في الذاكرة طويلة الأمد في غضون أيام وتحتفظ به وصلات عصبية تتغير عند حفظه إلى الأبد، لكن، أين يمكث الاسم بعد ترك الذاكرة العاملة الاعتيادية وقبل وصوله إلى الذاكرة طويلة الأمد ويصبح جزءًا لا يتجزأ منها؟
في دورية ساينس Science، يظهر فريق بحثي أنه يمكن إحياء ذكريات من هذه "المرحلة الانتقالية"، وتشير نتائجهم إلى نموذج جديد من الذاكرة العاملة، ويسمونه الذاكرة طويلة الأمد الترتيبية prioritized long-term memory والتي لا تحتاج إلى تصاعد في النشاط العصبي حتى تعمل، وتؤكد هذه الدراسة ما وجدته دراسة أخرى مؤخرًا، وهو أنه يمكن للمعلومات بطريقةٍ ما أن تبقى بين المشابك العصبية التي تربط بين الخلايا العصبية حتى بعد تلاشي الذاكرة العاملة المألوفة.
يقول جيفري وودمان Geoffrey Woodman عالم في الأعصاب الإدراكية في جامعة فاندربيلت في ناشفيل Vanderbilt University in Nashville، والذي لم يشارك في العمل: "إن هذه نتيجة أساسية حقاً، فهي كالمادة المظلمة في الذاكرة ومن الصعب حقاً رؤيتها أو قياسها بطريقة واضحة، لكنها يجب أن تكون موجودة، وإلا ستتلاشى الذكريات بعيداً".
في البداية، كان لدى عالم الأعصاب الإدراكي ناثان روس Nathan Rose وزملاؤه في جامعة ويسكونسن (UW) في ماديسون the University of Wisconsin (UW) in Madison، أشخاص يشاهدون سلسلة من الصفحات الالكترونية تظهر وجوهًا وكلماتٍ ونقاطًا متحركة في اتجاه واحد، فتتبعوا النشاط العصبي الناتج باستخدام التصوير بالرنين المغناطيسي الوظيفي (fMRI)، وبمساعدة خوارزمية في التعلم الآلي machine learning algorithm، استطاعوا تصنيف نشاط الدماغ المرتبط بكل عنصر ظهر للمشتركين، ثم عُرِضت العناصر على الأشخاص في أزواج (كلمة ووجه، على سبيل المثال) ولكنهم أعطوا معلومات مسبقة بأن الأفضل أن يركزوا على عنصر واحد فقط[1].
في البداية، ظهرت الإشارات الدماغية الخاصة بالعنصرين مع بعضها، وذلك بحسب ما ظهر على جهاز تخطيط كهربية الدماغ (EEG)، ولكن النشاط العصبي للعنصر الذي لم يلمح إليه العلماء (العنصر غير الملمح إليه) انخفض إلى المستوى البدئي له، وكأن الشخص قد نسيه، أما الإشارات الدماغية الخاصة بالعنصر الملمح إليه فقد بقيت، ما يعني أن هذا العنصر لا يزال في الذاكرة العاملة. ولكن الأشخاص كانوا قادرين على استذكار العنصر غير الملمح إليه عندما طلب إليهم ذلك بعد بضع ثوان.
تحول روس مع زملائه إلى التحفيز المغناطيسي عبر الجمجمة، وهي طريقة غير باضعة تستخدم المجالات المغناطيسية المتغيرة بسرعة لإيصال نبضة تيار كهربائي إلى الدماغ. طلب الباحثون من الأشخاص القيام بنفس المهمة ذات التلميح.
ثم أرسلوا نبضة من التحفيز المغناطيسي عبر الجمجمة بعد أن تلاشت الإشارة الخاصة بالعنصر غير الملمح إليه، وبعدها ظهرت موجة كهربائية موافقة للنشاط العصبي الخاص بالعنصر غير الملمح إليه (والمنسي عمليًا)، مما يدل على أن هناك إعادة تنشيط للذكرى بحيث تدخل في مجال الوعي بعد أن كانت في حالة الخمول.
ليس هذا فحسب، بل إن العلماء عندما حفزوا المناطق الدماغية التي كانت فاعلة استجابة للعنصر غير الملمح إليه، صارت إشارة التفعيل أقوى من ذي قبل.
لا تتناول الدراسة كيفية احتفاظ المشابك العصبية (أو غيرها من خصائص الخلايا العصبية) بهذا المستوى الثاني من الذاكرة العاملة، أو مقدار المعلومات التي يمكنها تخزينه. يقول برادلي بوستل Bradley Postle عالم الأعصاب الإدراكي لجامعة ويسكنسون والمؤلف المشارك في الدراسة: "إنها خطوة بدائية مبكرة في فهم كيف تدخل الأمور إلى عقولنا".
ويوافق وودمان بقوله: "تميل الدراسات الجيدة إلى تسليط الضوء على الأسئلة أكثر من الإجابة عنها. وعملنا هذا يحقق هذا الشيء"، ويقول إن لحالة الذاكرة الجديدة مجموعة من الآثار العملية ابتداءً من مساعدة طلاب الكليات في التعلم بفعالية أكثر وصولاً إلى مساعدة الناس بحالات مرضية عصبية متعلقة بالذاكرة، مثل فقدان الذاكرة والصرع ومرض الفصام.
الملاحظات:
[1] لنسمه: العنصر الملمح إليه، لأن الباحثين ألمحوا للمشتركين أن ينتبهوا له.