خلايا ضرورية من أجل الذاكرة

قد توفر الاكتشافات لنا رؤيةً أعمق إلى داخل العديد من الحالات النفسية، ومن ضمنها القلق واضطرابات المزاج.

في بحثٍ جديد لعلماء من كولمبيا، يدرس علماء الأعصاب خلايا دماغية حديثة النشأة في فئران مستيقظة، ويصفون نشاط هذه الخلايا بما يعرف بتخلق النسيج العصبي، ويكشفون عن دورٍ هام لهذه الخلايا في تكوين الذاكرة، كما يوفر البحث دلائل عما يحدث عندما تنحرف عملية تشفير الذكريات عن مسارها الصحيح.

هذه الدراسة يقودها باحثون من معهد مورتيمر زوكرمان للعقل والدماغ والسلوك في كولومبيا والمركز الطبي التابع لجامعة كولومبيا، ونُشرت في 10 مارس/آذار 2016 في دورية Neuron.

يقول الطبيب الأستاذ أتيلا لوشونزي: "تتيح لنا الطريقة التي استخدمناها، أن نقارن بين نشاط الخلايا حديثة الولادة وبين الخلايا البالغة في أدمغة الحيوانات أثناء مراقبتنا لسلوكها، وقد تساعد هذه النتائج العلماءَ في حل لغز الدور الذي يلعبه تخلق النسيج العصبي لدى البالغين في كل من الصحة والمرض"، أتيلا لوشونزي هو الباحث الرئيس في معهد روكرمان في كولومبيا، وبروفيسور مساعد في علوم الأعصاب في المركز الطبي التابع لجامعة كولومبيا، وهو من كبار مؤلفي الدراسة.

تنشأ أغلب خلايا الدماغ قبل الولادة، ولكن القليل من الأماكن المحددة تستمر في إنتاج خلايا جديدة خلال مرحلة البلوغ، أحد هذه المناطق يدعى التلفيف المسنن dentate gyrus، وهو تركيبٌ صغير في الحصين hippocampus (المركز الرئيس في الدماغ للتعلم والذاكرة)، ولكن بسبب الصغر الواضح للتلفيف المسنن، وبسبب أنه مدفون عميقًا داخل الدماغ، صعُبَ على العلماء دراسته بشكل وافٍ.

قال د.لوشونزي: "أحد الأسئلة التي بقيت بدون إجابة هو لماذا قررت الطبيعة أن تجدد الخلايا الموجودة في هذه المنطقة بالتحديد ولم تختر غيرها؟ في هذه الدراسة، طورنا طرقًا معقدة ومعدلة من أجل تقصي إجابة عن هذا السؤال استقصاءً أشمل من ذي قبل".

تشير بعض الدراسات السابقة إلى أن الخلايا الموجودة في التلفيف المسنن -والمعروفة بالخلايا الحُبَيْبية granule cells- تتيح للدماغ أن يميز ما بين البيئات المتشابهة التي تملك بعض الاختلافات، تسمى هذه العملية بفصل الأنماط، وهي عملية أساسية في نظام تحديد المواقع GPS في الدماغ، وتساعدنا هذه العملية في تذكر أين ركنا سيارتنا هذا الصباح، وليس أين ركناها قبل أسبوعين، على سبيل المثال.

يقول رينيه هين René Hen: "تتواجد أغلب الخلايا الحبيبية في التلفيف المسنن منذ الولادة، ولكن عددًا قليلًا منها ينتج من تخلق النسيج العصبي في البالغين، وهو الأمر الذي يُنتج العديد من الخلايا الحبيبية غير الناضجة خلال فترة البلوغ، كان افتراضنا ينص على أن هذه الخلايا الحبيبة الناشئة خلال مرحلة البلوغ تلعب دورًا هامًا في عملية فصل الأنماط"، رينيه هين هو دكتور بروفيسور في علم الأعصاب وعلم الأدوية (في الطب النفسي) في المركز الطبي التابع لجامعة كولومبيا، وهو من كبار مؤلفي الورقة العلمية.

استخدم العلماء مجهرًا ثنائيَّ الفوتون two-photon microscope، من أجل دراسة نشاط الخلايا الحبيبية الناشئة وقت البلوغ في أدمغة الفئران، بينما كانت تسير على آلة السير treadmill، ومن أجل أن يحفزوا تكوين ذكرياتٍ جديدة، قام العلماء بتزويد آلة السير بملامس مميزة، وأحاطوها بالعديد من التلميحات التي تحفز العديد من الحواس لدى الفأر، كما كان العلماء قادرين على وضع خريطة توضح كيف كان دور كل من نوعي الخلايا الحبيبية (الخلايا الجديدة الناشئة وقت البلوغ، وتلك القديمة والناضجة) في عملية فصل الأنماط.

يقول مازن خيربِك Mazen Kheirbek، الحاصل على شهادة الدكتوراه، والمؤلف الأخير في الورقة، والذي أكمل عمله على هذه الدراسة من كولومبيا: "كانت الدراسات الأخرى غير ناجحة فيما يخص تصوير التلفيف المسنن، وذلك علاوةً على تصوير الخلايا الموجودة فيه خليةً خلية، وبهذه الدرجة من الدقة، أما هنا، فقد كنا قادرين على إثبات أن الخلايا الحبيبية الناشئة عند البلوغ لها نشاط ذو سمة تختلف عن الخلايا الناضجة المجاورة لها، كما كنا قادرين على تحديد السبب الكامن وراء كون هذا الاختلاف مهمًا إلى هذه الدرجة".
 
يكمن الفرق الذي وجده الباحثون، في النمط المميز لنشاط الخلايا الناشئة عند البلوغ.
فبعد إنتاجها بوقتٍ قصير، فإنها تبدي قابليةً أكبر على الاستثارة، مقارنةً بأقرانها من الخلايا الناضجة، ولكن بعد ستة أسابيع يقل هذا النشاط، يفترض الباحثون أن هذه الهبّة الأولية في قابلية الاستثارة قد تكون هي المفتاح المهم لحفظ الذكريات التي نحتاجها من أجل فصل الأنماط.

من أجل أن يحدد العلماء ماذا يحدث عندما تُعَرقَل هذه العملية، وضع العلماء الفئرانَ في بيئةٍ واحدة وأعطوها صعقةً قدمية footshock صغيرة، ثم وضعوا الحيوانات في بيئةٍ أخرى آمنة، كانت مشابهة للبيئة الأولى، إلا أنها مميزة عنها، وباستخدام علم البصريات الوراثية optogenetics -وهي تقنية تستخدم ضوء الليزر من أجل التلاعب بخلايا محددة في الدماغ- أخمد العلماء الخلايا الحبيبية الناشئة وقت البلوغ خلال تعريض الفئران للبيئة الآمنة. 

من المفترض أن يميز الفأر السليم العادي بين البيئتين، وأن يبدي استجابة خوف للبيئة المعادية، ولكن بالنسبة للفئران التي أُخمدت خلايا دماغها، بدت لها البيئتان (الآمنة والخطرة) متماثلتين، مما تسبب للفئران بأن تخاف كلتا البيئتين.

قال د.خيربك: "تكشف لنا هذه النتائج أن الخلايا التي نشأت عند البلوغ ضروريةٌ لتشفير ذكريات التجارب الجديدة، وليس هذا فحسب، وإنما أيضًا من أجل تحديد ما إذا كانت إحدى التجربتين مختلفة عن التجربة التالية، نعتبر عملية دمج الذكريات، وهي العملية التي شاهدناها عندما أخمدنا الخلايا الناشئة عند البلوغ، عمليةً جوهرية للعديد من حالات الأمراض النفسية، والتي تتراوح ما بين القلق واضطرابات المزاج إلى الاضطراب التالي للصدمة PTSD".

قال د.هين: "بالتأكيد، فإننا نلاحظ غالبًا في هذه الاضطرابات ظاهرة عدم التمييز بين حادثتين مختلفتين، إلا أن بينهما بعض التشابه (وذلك من مثل طلقة عيار ناري مقابل النار الخلفية في السيارات[1]، فهمنا لكيفية تأثير الخلايا الحبيبية الناشئة عند البلوغ على التصرفات في الدماغ الحي، هو خطوةٌ مهمة نحو تطويع هذه العملية من أجل استخدامها بأهداف علاجية".

 
عنوان الدراسة هو "المساهمة المميزة للخلايا الحبيبية بلوغية المنشأ في التشفير السياقي" "Distinct contribution of adult-born hippocampal granule cells to context encoding". 

من المساهمين الإضافيين: المؤلف الأول ناثان دانييلسون Nathan Danielson، وباتريك كايفوش Patrick Kaifosh، دكتوراه، وجيفري زاريمبا Jeffrey Zaremba، وماثيو لوفيت-بارون Matthew Lovett-Barron، دكتوراه، وجوزيف تساي Joseph Tsai، وكريستين ديني Christine Denny، دكتوراه، وإليزابيث بالوغ Elizabeth Balough، وأليكسندر غولدبيرغ Alexander Goldberg، وليام درو Liam Drew، دكتوراه.


الملاحظات:

[1] النار الخلفية للسيارات car backfire: هي انفجار سببه محرك الاحتراق الداخلي، ويمكن رؤيته على شكل نار تنطلق من عادم السيارة من سيارات السباق السريعة.
 
 

إمسح وإقرأ

المصادر

شارك

اترك تعليقاً () تعليقات