يمكنك الاستماع إلى المقال عوضاً عن القراءة
الحلقة المفقودة لأصل الحياة على الأرض، ربما يكون العلماء قد اكتشفوها!

قبل مليارات السنين، كانت الأرض مُغطاة بطينٍ مائيّ مع جزيئاتٍ أوليّة وغازات ومعادن، ولا يُعتبَر أيٌّ منها كائناً حيّاً وفق تصنيف علماء الأحياء، ثم بطريقةٍ ما، انبثق من الحساء البدئي أو قبل الحيوي∗ Prebiotic stew اللبناتُ الحاسمة الأولى كالبروتينات، والسكريات، والأحماض الأمينية، وجدران الخلايا، التي تجمّعت على مدى مليارات السنين التالية لتساهم في تشكيل أوّل بقعةٍ من الحياة على الأرض.

كرّست مجموعةٌ فرعيّة من الكيميائيين حياتهم المهنية في سبيل تفسير غموض الظروف البيئيّة والكيميائيّة المبكّرة، التي رافقت ظهورَ أصل الحياة، ومع توفّر أدلّةٍ قليلةٍ في السجل الجيولوجي، قاموا بتكوين جزيئاتٍ بسيطة قد تكون تواجدت قبل مليارات السنين، واختبار قدرة الإنزيمات القديمة على تحويل المواد البدئيّة قبل الحيويّة إلى كائناتٍ حيّة.

أفاد فريقٌ من الكيميائيين في معهد سكريبس للأبحاث Scripps Research Institute، في يوم 6 تشرين الثاني/نوفمبر لمجلة نيتشر للكيمياء the Journal Nature Chemistry، أنّهم حدّدوا إنزيماً واحداً بدائياً بإمكانه التفاعل مع محفّزات الأرض المبكّرة لإنتاج بعض البشائر الأساسية للحياة: مثل السّلاسل القصيرة من الأحماض الأمينيّة التي تقدّم الطاقة للخلايا، وأيضاً الدهون التي تقوم بتشكيل جدران الخلية، بالإضافة إلى خيوط النيوكليوتيدات nucleotides التي تخزّن المعلومات الوراثيّة.

عمل رامانارايانان كريشنامورثي Ramanarayanan Krishnamurthy (وهو أستاذٌ مساعدٌ في مجال الكيمياء، في معهد سكريبس للأبحاث، والباحث الرئيسيّ لورقة أصول الحياة) على مدى عدّة سنواتٍ، في مختبره، على القيام بالتجربة بمساعدة الإنزيمات الاصطناعيّة، التي تسمّى دي أميدو فوسفات، اختصاراً DAP، والتي ثبت أنّ لها القدرة على توجيه العملية الكيميائيّة الحاسمة، التي تُدعى بعملية الفسفرة phosphorylation، وهي تعني ببساطة عملية إضافة جزيء فوسفات إلى جزيءٍ آخر، وبدون هذه العملية، لن تكون الحياة موجودة.

يفصح الباحث كريشنامورثي بقوله: "إذا نظرت إلى الحياة اليوم، وتأمّلت كيف كانت على الأرجح قبل ثلاث مليار سنة على الأقل، فستجد أنّها كانت تعتمد كثيراً على عمليات الفسفرة الكيميائية، فحمضك النووي الريبي RNA، وحمضك النووي الريبي منزوع الأكسجين DNA، والكثير من العمليات الحيوية الخاصّة بك تخضع لعملية الفسفرة، وبالمثل هي السكريات، والأحماض الأمينيّة، والبروتينات".

تسمّى الإنزيمات التي تحرّض عملية الفسفرة بأنزيمات الكيناز Kinases، وتَستخدمُ هذه الإنزيمات عملية الفسفرة لإرسال إشاراتٍ توجيهيّة للخلايا لتقومَ بالانقسام، بالإضافة إلى توجيهها لزيادة نسبة عدد البروتينات في خليةٍ ما لتكون أعلى تركيزاً من خليةٍ أخرى، ولتأمر سلاسل الحمض النووي DNA بالانفصال، أو لتقومَ بتوجيه الحمض النووي الريبي RNA ليتشكّل. وقد يكون الإنزيم الاصطناعي دي أميدو فوسفات DAP أحد الإنزيمات البدائية الأولى، التي بدأت سلسلة عمليات الفسفرة، وفقاً لِمَا يعتقده الباحث كريشنامورثي.

ولاختبار نظريته، قام كريشنامورثي وزملاؤه بمحاكاة الظروف الأرضية المبكّرة في المختبر، باستخدام قاعدةٍ مائيةٍ وعجينةٍ طينيّة، وذلك لتعيين مستويات درجة الحموضة pH المتفاوتة، ثم قاموا بجمع الإنزيم الاصطناعي دي أميدو فوسفات DAP مع تراكيزٍ مختلفة من مادتي المغنيزيوم والتوتياء (الزنك)، ومركّب يُسمى إيميدازول imidazole، الذي يتصرّف كعاملٍ محفّز لتسريع عمليّات التفاعل، وتنتهي عملية المحاكاة في غضون عدة أسابيع أو أشهر لتصبح كاملة.

ولكي يجتاز الإنزيم الاصطناعي DAP الاختبار، كان عليه أن يقوم بتحفيز أحداث عملية الفسفرة بنجاح، التي أنتجت النيوكليوتيدات البسيطة، والببتيدات، وبنى جدار الخلية، تحت ظل ظروف مماثلة.

أما الإنزيمات السابقة التي كانت مرشّحة لتكون المسبّبة لأصل الحياة كان بإمكانها فقط فسفرة هياكل معيّنة تحت ظروفٍ بيئيّة وكيميائيّة شديدة الاختلاف. وجد كريشنامورثي أنّ الإنزيم الاصطناعي DAP باستطاعته فعل كلّ شيءٍ، مثل فسفرة اللبنات الأربعة لمركب النكليوزيد الخاص بالحمض النووي الريبي RNA، ثم خيوط الحمض النووي الريبي القصيرة، بعدها الأحماض الأمينية، والدهون، وسلاسل الببتيد.

يقول كريشنامورثي: "هل يعني ذلك أنّ الإنزيم الاصطناعي DAP هو المادّةُ السحريّة التي تحوّل مادةً عشوائيّة إلى مادة حيّة؟ ويواصل: "لا يحدث هذا تماماً، أفضل ما يمكننا القيام به هو محاولة إثباتٍ أنّ المواد الكيميائية البسيطة في ظلّ ظروفٍ مناسبة باستطاعتها توليد المزيد من المواد الكيميائيّة، التي تقود إلى أمرٍ شبيهٍ بالحياة، وليس بمقدورنا الادّعاء أنّ هذه هي الطريقة التي من خلالها تشكّلت الحياة في وقت مبكّر على الأرض". أمرٌ واحدٌ لا يمكن لكريشنامورثي إثباته هو مدى وجود الإنزيم الاصطناعي DAP قبل أربع مليار سنة.

قام كريشنامورثي بتركيب جزيءٍ في مختبره كطريقةٍ لحل أحد التحديات الأساسية لعملية الفسفرة في الظروف الرّطبة والمبكّرة على الأرض، حيث تحتاج معظم عمليات تفاعل الفسفرة إلى إزالة جزيء الماء أثناء العملية. يتساءل كريشنامورثي: "كيف يمكنك إزالة الماء من الجزيء عندما تكون محاطاً ببركة ماء؟ إنها مهمّة معقّدة للديناميكيا الحرارية".

يحلّ الإنزيم الاصطناعي DAP هذه المشكلة، حيث يزيل جزيء أمونيا بدلاً من الماء.

دأب كريشنامورثي على العمل مع جيوكيميائيين لتحديد المصادر المحتملة للإنزيم الاصطناعي DAP في الماضي الجيولوجي البعيد. وقد تكون تدفقات الحمم الغنية بالفوسفات قد تفاعلت مع الأمونيا في الهواء، أو ربّما قد تكون رشّحت من المعادن المحتوية على الفوسفات، أو يُحتمل أنها وصلت على ظهر النيازك التي أرسلتها نجومٌ بعيدة.

الأمر الوحيد الواضح، هو أنّه بدون الإنزيم الاصطناعي DAP أو شيءٍ من هذا القبيل، ستبقى الأرض عجينةً طينيةً بلا حياةٍ.


∗ مادة موجودة قبل ظهور الحياة.

إمسح وإقرأ

المصادر

شارك

اترك تعليقاً () تعليقات