رصد إشارات قادمة من النجوم الأولى في الكون 

حقوق الصورة : N.R.Fuller/National Science Foundation

إنها لحظةٌ عظيمةٌ في تاريخ العلم.

قد يكون الانفجار العظيم ساطعًا ومثيرًا، ولكن فور حدوثه عمّ الظلام الحالك في الكون قاطبة لوقتٍ طويلٍ. وفي الواقع، يعتقد العلماء أن النجوم الأولى قد استغرقت 200 مليون سنةٍ تقريبًا لتبرز إلى حيز الوجود من حساء المادة الغامض. وبما أن التلسكوبات الحالية ليست على القدر الكافي من الحساسية التي تمكنها من رصد ضوء تلك النجوم مباشرةً، تطرّق علماء الفلك للبحث عن دليلٍ آخر غير مباشرٍ على وجودها. وفي الآونة الأخيرة، تمكن فريقٌ من العلماء من التقاط إشاراتٍ خافتةٍ قادمةٍ من تلك النجوم باستخدام هوائيٍّ راديويٍّ بحجم سطح الطاولة يُسمّى EDGES.

 
تُظهر تلك القياسات المذهلة، التي تفتح نافذةً جديدةً على الكون المبكر، أن تلك النجوم قد برزت إلى حيز الوجود بعد نحو 180 مليون سنةٍ عقب الانفجار العظيم، كما تشير النتائج الأخيرة، المنشورة في مجلة Nature، إلى أنه ربما يضطر العلماء لإعادة التفكير في أصل "المادة المظلمة dark matter، وهي نوعٌ غامضٌ من مادةٍ غير مرئيةٍ. هذا وقد أظهرت النماذج أن النجوم التي أضاءت الكون فيما سبق ستغدو زرقاء وقصيرة العمر، منتجةً الأشعة فوق البنفسجية.
 
كان يُعتقد لفترةٍ طويلةٍ أن أبكر إشارةً قابلةً للرصد لهذا "الفجر الكوني" cosmic dawn هي إشارة امتصاص absorption signal، الخفوت في السطوع عند طولٍ موجيٍّ معينٍ، ناجمةٌ عن مرور الضوء وتأثيره على الخواص الفيزيائية لسُحب غاز الهيدروجين، وهو العنصر الأكثر وفرةً في الكون.
 
حقوق الصورة: CSIRO نحن نعلم أنه ينبغي العثور على الخفوت في الجزء المشع من الطيف الكهرومغناطيسي، بطولٍ موجيٍّ 21 سم (8.2 بوصة).
حقوق الصورة: CSIRO نحن نعلم أنه ينبغي العثور على الخفوت في الجزء المشع من الطيف الكهرومغناطيسي، بطولٍ موجيٍّ 21 سم (8.2 بوصة).
 
قياساتٌ صعبةٌ

كان كلّ ذلك متوقعًا نظريًا، ولكن عمليًا، العثور على الإشارة كان مهمةً غايةً في الصعوبة. وهذا لأنها تتداخل مع العديد من الإشارات الأخرى في هذا النطاق الطيفي الذي يُعدّ أقوى بكثيرٍ، مثل الترددات الشائعة على قرص الراديو FM والموجات الراديوية الناتجة عن أحداثٍ أخرى في مجرتنا، ويعود سبب نجاح الفريق في نهاية المطاف جزئيًا إلى مُستقبِلٍ حساسٍ وهوائيٍّ صغير الحجم، الأمر الذي يتيح لك تغطية مساحةٍ شاسعةٍ من السماء بسهولةٍ كبيرةٍ، وللتأكد من أن أيّ خفوتٍ في مقدار السطوع عُثر عليه، أكان قادمًا من ضوء النجوم في الكون المبكر أم لا، التفت الفريق إلى التأثير الذي يُدعى بانزياح دوبلر Doppler shift، ستكون قد اختبرت ذلك التأثير كانخفاضٍ في حدة الصوت عند مرور سيارة إسعافٍ بسرعةٍ من جانبك وكلما ابتعدت عنك قلّت حدة الصوت.
 

وبالمثل، في حين أن كلّ المجرات آخذةٌ في الابتعاد عنا نتيجةً لتمدد الكون، فالضوء هو الآخر يأخذ في الانزياح نحو الأطوال الموجية للون الأحمر. يطلق الفلكيون على هذا التأثير "الانزياح نحو الأحمر redshift.
 
حقوق الصورة: N.R.Fuller/National Science Foundation
حقوق الصورة: N.R.Fuller/National Science Foundation
 
زِد إلى هذا، أن الانزياح نحو الأحمر يُعلِم العلماء عن مقدار بُعد سحابةٍ غازيةٍ معينةٍ عن كوكب الأرض وإلى أيّ مدىً يعود الزمن الكوني للضوء منذ انبعاثه. وفي هذه الحالة، فإن أيّ انزياحٍ في الخفوت متوقعٌ عند الطول الموجي 21 سم، سوف يشير إلى كيفية تحرك الغاز وأين يقع بالضبط. لذلك، قاس الفريق مقدار الخفوت الذي غطّى أزمنةً غابرةً في الكون، أكثرها إثارةً العودة للوراء حينما كان عُمر الكون ذاته 180 مليون عامٍ، مقارنةً بعمره الكبير الحالي الذي يبلغ 13.9 مليار سنةٍ. لقد كان هذا الضوء من النجوم الأولى.
 
انحناء المادة المظلمة

لا تنتهي القصة عند هذا الحدّ! فقد فوجئ الفريق بالعثور على مدى الإشارة أكبر من ضعف حجم ما كان متوقعًا. ويوحي هذا أن غاز الهيدروجين كان أكثر برودةً عما هو متوقعٌ عن إشعاع الخلفية، حيث ألقت تلك النتائج، التي نُشرت في ورقةٍ بحثيةٍ أخرى بمجلة Nature، مفتاح الحل في مجريات عمل الفيزيائيين النظريين، ذلك لأن الفيزياء تشير إلى أنه في هذا الوقت في الكون، كان من السهل تسخين الغاز ولكن من الصعب تبريده. ومن أجل تبريدٍ إضافيٍّ كنا بحاجةٍ لتفسير تلك الإشارات، ويتجادل المؤلفون بأنه يجب على الغاز أن يتفاعل مع شيءٍ ما أكثر برودةً. والشيء الوحيد المعروف في الكون المبكر بكونه الأكثر برودةً من الغاز الكوني هي المادة المظلمة.
 

وفي الواقع، يجب على النظريين الآن أن يقرروا ما إذا كان ينبغي عليهم توسيع النموذج القياسي لعلم الكونيات وفيزياء الجسيمات لشرح هذا التأثير. إذ لا شك في أننا نعلم أن المادة المظلمة هي الأكثر شيوعًا بخمس مراتٍ من المادة العادية، ولكننا لا نعرف حتى الآن مما هي مصنوعةٌ. وقد طُرحت خياراتٌ عدةٌ للجسيمات التي يمكن أن تشكِّل المادة المظلمة إلى جانب المرشح المفضل ألا وهي الجسيمات الضخمة الخاملة Weakly Interacting Massive Particle، اختصارًا WIMP.
 
على أيّ حالٍ، أشار البحث الجديد إلى أن جسيم المادة المظلمة لن يكون أثقل بكثيرٍ من البروتون (الذي يُشكّل النواة الذرية إلى جانب النيوترون). وعلى ما يبدو فهي أقل بكثيرٍ من الكتل المتوقعة للجسيمات الضخمة الخاملة. كما تشير التحاليل هي الأخرى، إن المادة المظلمة أبرد مما هو متوقعٌ، لتتركنا أمام فرضيةٍ مثيرةٍ لاستخدام "علم كونيات 21 سم" كمسبارٍ جديدٍ للمادة المظلمة في الكون.
 
علاوةً على ذلك، قد تزيح المراصد ذات المستقبلات الأكثر حساسيةً وقليلة المضاعفات الناتجة عن التداخل الراديويّ الأرضيّ، الأمر الذي يمكن تحقيقه عن طريق وضع مقياس تداخل interferometer في الجانب المظلم للقمر، الستار عن المزيد من التفاصيل عن طبيعة المادة المظلمة، وربما قياس سرعتها.
 
في النهاية، ستتحقق آمال علماء الفلك الراديوي في الوقت المناسب، العاكفين على تطوير الجيل المقبل من الشبكات الفائقة للتلسكوبات الردايوية أو مقاييس التداخل في أستراليا وجنوب أفريقيا، والتي تُسمّى "المصفوفة الكيلومترية المربعة" Square Kilometre Array إلى جانب التجارب الأخرى الحالية المخصصة لدراسة الفجر الكوني. إنه وقتٌ مثيرٌ حقًا لتكون عالِمًا، أليس كذلك؟

 

إمسح وإقرأ

المصادر

شارك

المصطلحات
  • مقياس التداخل (interferometer): عبارة عن أداة تقوم بقياس التداخل (Interferometry)
  • المادة المظلمة (Dark Matter): وهو الاسم الذي تمّ إعطاؤه لكمية المادة التي اُكتشف وجودها نتيجة لتحليل منحنيات دوران المجرة، والتي تواصل حتى الآن الإفلات من كل عمليات الكشف. هناك العديد من النظريات التي تحاول شرح طبيعة المادة المظلمة، لكن لم تنجح أي منها في أن تكون مقنعة إلى درجة كافية، و لا يزال السؤال المتعلق بطبيعة هذه المادة أمراً غامضاً.
  • الامتصاص (absorption): العملية التي يقوم من خلالها الضوء أو أي إشعاع كهرومغناطيسي آخر بإعطاء طاقته إلى ذرة أو جزيء.

اترك تعليقاً () تعليقات