الثقب الأسود بين جاذبية نيوتن ونسبية أينشتاين العامة

رسم توضيحي لثقب أسود يبتلع نجمًا. حقوق الصورة: NASA, JPL-Caltech


 

توصّل نيوتن سنة 1687 إلى مفهومٍ استطاع تفسير حركة الأجرام السماوية وثبات الكائنات المختلفة على سطح الأرض، وهو الجاذبية، والتي أصبحت معروفةً فيما بعد على أنها إحدى القوى الأربعة الرئيسية (1) التي توصّل إليها الإنسان. وتنصُّ جاذبيةُ نيوتن على وجود قوى جذبٍ تجمع بين كل جسمين في الكون، تزداد بزيادة كتلهما، وتتناقص بزيادة المسافة بينهما.

 

في ذلك الوقت، لم تكن ماهية الضوء معروفةً بعد، فهل يتحرك الضوء على شكل جسيمات أم موجات؟ من جهته، دعم نيوتن فرضية حركة الضوء على شكل جسيمات، ونشر في سنة 1704 كتابه "البصريات" (Opticks)، الذي فسّر فيه ظاهرتي الضوء: الانعكاس والانكسار من وجهة نظر الفرضية. ومع أن الفرضية المنافسة: الضوء على شكل موجات والتي طرحها الفيزيائي الهولندي كريستيان هويغنز، استطاعت تفسير الظاهرتين أيضًا، لكنها لم تستطع تفسير الظلال الحادّة من جهة، ومن جهةٍ أخرى منع المرضُ هويغنز من الاستمرار في العمل على فرضيّته، ليأخذ المجتمعُ العلميُّ بفرضية نيوتن التي لم يكن هو شخصيًّا متأكدًا منها، لكن صيتَه كان كفيلًا بتصديقها لأكثر من مئة عامٍ تالية.

 

انطلاقًا من فرضية نيوتن، واستنادًا لقانوني الجاذبية وسرعة الإفلات (2)، بعث الفيلسوف الإنجليزي، جون ميشيل، رسالةً للعالم الإنجليزي، كافنديش، أراد فيها اقتراح طريقةٍ لقياس كتلة النجوم:

 

بما أن الضوء يسيرُ على شكل جسيمات، لا بدّ وأن جاذبية النجم الذي يبعث الضوء ستسبّب في كل مرةٍ تناقصًا في سرعة الضوء المنبعث (3)، وبالتالي في طاقته. ظنّ ميشيل أن بإمكانه استخدام منشورٍ يقيس من خلاله طاقة الضوء المنبعث من النجم على مراحل ومقارنته بالضوء المنبعث من عدة نجومٍ أخرى من أجل تحديد الفروقات بين جاذبية أسطح النجوم المختلفة، وبالتالي كتلها.

 

فكّر ميشيل فيما يمكن أن يحصل لو كان النجمُ ضخمًا جدًّا، وكانت جاذبيته قويةً جدًّا بحيث تتساوى سرعةُ الإفلات منه مع سرعة الضوء، فكتب في رسالته:

 

"إذا كان نصف قطر جسم كرويّ بنفس كثافة الشمس، يعادل النسبة 1 إلى 500، وبافتراض أن الضوء ينجذب بنفس القوة بالتناسب بين كتلته والأجسام الأخرى، فإن الضوء المنبعث من هذا الجسم سيعود كلُّه إلى الجسم نفسه، بفعل جاذبيته".

 

جزءٌ من رسالة جون ميشيل إلى هنري كافنديش  حقوق الصورة: Philosophical Transactions of the Royal Society of London, Vol. 74, p.35, 1783
جزءٌ من رسالة جون ميشيل إلى هنري كافنديش حقوق الصورة: Philosophical Transactions of the Royal Society of London, Vol. 74, p.35, 1783

 

بإمكاني أن أسمّي الفكرة التي طرحها ميشيل بالمبهرة والمذهلة؛ توصّل ميشيل إلى أن بعض النجوم (وربما معظم النجوم) قد تكون غير مرئية بالنسبة لنا بما أنها تمتصّ الضوء الذي ينطلق منها، وسُمّيت فرضيته بالنجم الأسود، لكن فكرةً عظيمةً كتلك كان ينقصها الإثبات:

 

توفّي ميشيل سنة 1793 قبل أن يتمكن من إثبات فرضيته، وفي عام 1802، أعلن الفيزيائي الإنجليزي توماس يونغ نتائج تجاربه حيث توصّل إلى أن الضوء يسير على شكل موجات. لم يقتنع الكثيرُ من مؤيّدي فرضية الجسيمات بتلك النتائج، لكن استمرار يونغ في تجاربه وقيام المهندس والفيزيائي الفرنسي أوغستين فريسنل بتجارب استطاع من خلالها إثبات صحة فرضية الموجات، أدّت بحلول العقد الرابع من القرن التاسع عشر إلى قناعة غالبية المجتمع العلمي بها.

 

وهكذا، أصبحت فرضية النجم الأسود لجون ميشيل منسيةً تمامًا حتى عام 1915.

 

في عام 1905، نشر آلبرت أينشتاين نظريته المذهلة: النسبية الخاصة؛ والتي تقول بأن قوانين الفيزياء هي نفسها في جميع الأنظمة التي تمتاز بالقصور الذاتي، أو التي لا تتسارع. أمضى أينشتاين بعدها عقدًا كاملًا محاولًا إدخال التسارع إلى المعادلة، ليضع أخيرًا في عام 1915 نظريته: النسبية العامة، والتي تقول بأن الأجسام شديدة الضخامة تسبّب تغيرًا في منحنى الزمكان، أو لنقل انحناءً فيه، وهو ما نعرّفه بالجاذبية.

 

بعد عامٍ واحد، استطاع الفيزيائي الألماني كارل شفارتزشيلد أن يتوصّل من خلال النسبية العامة لأينشتاين إلى معادلةٍ تثبت وجود أجسامٍ في الفضاء يمكنها ابتلاع الأجسام والطاقة الموجودة في نطاقٍ بُعدٍ معين، سُمّي بنصف قطر شفارتزشيلد:

 

بعد أن يفقد النجمُ وقوده، يبدأ بالانهيار، وتعمل جاذبيته عندها على ابتلاع كل ما هو موجودٌ حولها، ليصبح أصغر وأصغر، حتى يصل إلى نقطةٍ لا يعود بإمكان أي جسمٍ أو طاقةٍ بعدها الإفلات من جاذبيته، وهذا ما يسمّى بالانهيار الجاذبي. وتحدّد كتلة النجم المتبقية ما سيؤول إليه الانهيار الجاذبي:

  • نجم بحجم الشمس يصبح قزمًا أبيض.
  • نجم حجمه أكبر كم حجم الشمس لكن كتلته أصغر من نحو 8 كتل شمسية يصبح نجمًا نيوترونيًّا.
  • نجم بكتلة أكبر، ينهار مكوّنًا ظاهرةً مذهلة، إذ تكون جاذبيتُه قويةً جدًّا، ولا يمكن لأي شيءٍ أن يهرب منه، أي شيءٍ حتى الضوء!

 

رسم توضيحي لقزم أبيض يدور حول ثقب أسود وصورة لأشعة سينية منبعثة من هناك  حقوق الرسم: Nasa / Chandra Xray Center / M.Weiss  حقوق صورة الأشعة السينية: Nasa / Chandra Xray Center / University of Alberta / A.Bahramain
رسم توضيحي لقزم أبيض يدور حول ثقب أسود وصورة لأشعة سينية منبعثة من هناك حقوق الرسم: Nasa / Chandra Xray Center / M.Weiss حقوق صورة الأشعة السينية: Nasa / Chandra Xray Center / University of Alberta / A.Bahramain

 

عندما يكون النجمُ ذا كتلةٍ كبيرةٍ جدًا، ويفقدُ طاقته، فإن انهياره الجاذبي سيؤدي إلى تشكل كرةٍ صغيرة الحجم عالية الكثافة وبالتالي ذات جاذبية عظيمة، وإن أي شيءٍ سيدخل نطاق نصف قطر شفارتزشيلد سيبتلعه الجسمُ الذي تشكّل، حتى الضوء الذي يعتبر أسرع ما اكتشفه الإنسان، لن يتمكن من الهرب من ذلك الجسم.

 

وهكذا، استطاعت كلٌّ من جاذبية نيوتن ونسبية أينشتاين  العامة التوصّل إلى إمكانية وجود الثقوب السوداء، ولكن ذلك لم يكن كافيًا، فحتى حلول العقد الخامس من القرن العشرين، كان العالمُ لا زال يجهل وجودها، وفي سنة 1939، تنبّأ كلٌّ من روبرت أوبنهايمر وهارتلاند سنايدر بأن الانهيار الجاذبي للنجم بإمكانه تشكيلُ جسمٍ لا شيء يهرب منه، وهو ما نسمّيه اليوم بالثقب الأسود، ولكن ولأنه أسود، فإن من الصعب تحديدُه ورصدُه.

 

عندما تنبّأ جون ميشيل بوجود النجوم السوداء (الثقوب السوداء) اقترح طريقةً لرصدها، وهي استخدام النظام الثنائي للنجوم: ظنّ ميشيل أنه إن وُجِد نجمٌ يدورُ حول النجم الأسود أو بالقرب منه، فإننا سنتمكن من رصد النجم الأسود من خلال رصدنا الأشعة المنبعثة من النجم المُصاحب إلى منطقةٍ مظلمةٍ أو سوداء، تستقبل الأشعة ولا ترسلُها. في الواقع، كانت فكرته تلك سابقةً لعصره، ولم تأخذ الاهتمام الذي استحقته، أما المجتمعُ العلميُّ في القرن الواحد والعشرين فيعتمد أنظمة النجوم الثنائية كطريقة رئيسية لرصد الثقوب السوداء.

 

أُطلق الفلكي الأمريكي جون ويلر سنة 1967 اسم "الثقب الأسود" على تلك المناطق المظلمة في السماء التي تجذب كل ما حولها، وذلك قبل رصدها فعليًّا. وفي عام 1971، استطاع كلٌّ من الفلكيّين لويس ويبستر وباول موردين، والطالب في جامعة تورنتو توماس بولتون، رصد مصدرٍ كثيفٍ للأشعة السينية، ضخم الكتلة لكنه غير مرئي، يقع في مدار حول نجم أزرق يبعد عنا أكثر من 6 آلاف سنة ضوئية، أُطلق عليه اسم "سيغنوس إكس-1" (Cygnus X-1)، والذي يُعدُّ أول ثقب أسود حُدِّد في السماء.

 

في يسار الصورة التالية، يظهر "سيغنوس إكس-1" الذي يقع داخل درب التبانة، وعلى يمين الصورة رسم توضيحي لما يتوقع العلماء أنه يحدث داخل هذا الثقب.


حقوق الصورة: NASA, Chandra Xray Center
حقوق الصورة: NASA, Chandra Xray Center

 

ولكن، في حين يمتصّ الثقب الأسود جميع الأشعة الكهرومغناطيسية، ألا يطلق الثقب الأسود أي إشعاعٍ من أي نوعٍ آخر؟

 

وضع العلماءُ مفهومًا افتراضيًّا حول جسمٍ بحرارة الصفر المطلق، بحالة توازن ثيرموديناميكي، يمتص كل الأشعة الكهرومغناطيسية الساقطة على سطحه ولا يعكس أيًّا منها: الجسم الأسود. وللحفاظ على توازنه الثيرموديناميكي يطلق الجسمُ إشعاعًا حراريًّا يعتمدُ على حرارته فقط يُعرف بـ"إشعاع الجسم الأسود".

 

على الرغم من أن الجسم الأسود جسمٌ افتراضيّ، إلا أن جميع الأجسام تطلق إشعاع الجسم الأسود، لكن ما يميز الجسم الأسود عن جميع الأجسام الأخرى هو درجة حرارته وامتصاصه لجميع الأشعة الكهرومغناطيسية.

 

إذن، هل يُعدُّ الثقب الأسود جسمًا أسودَ؟

 

في عام 1974 قدّم الفيزيائي النظري ستيفن هوكينغ اقتراحه حول إشعاع الجسم الأسود، قائلًا أن جسيمات صغيرة كالفوتون والنيوترون، قد تنبعث من أفق الحدث (The event horizon)؛ وهو محيط الثقب الأسود، أو حدوده. وبيّن هوكينغ أن الحرارة الفعّالة للثقب الأسود تتناسب عكسيًّا مع كتلته، ويتناسب تدفق الطاقة منه عكسيًّا مع مربع الكتلة.

 

رسم توضيحي لحركة البوزيترونات بالقرب من أفق الحدث حول ثقب أسود

 

حقوق الصورة: Kyle Parfrey et al./Berkeley Lab
حقوق الصورة: Kyle Parfrey et al./Berkeley Lab

 

ينطلق إشعاع هوكينغ من خارج أفق الحدث لا من داخله، أما ما يحصل داخل الثقب الأسود فهو أمرٌ نجهله تمامًا. إن ما يميّز الثقب الأسود شدة انحناء المكان فيه، ما يجعلنا غير قادرين على إيجاد أي رابطٍ بين داخله وخارجه، نحن لا ندرك حتى إذا كان من الممكن أن نقول "داخل الثقب الأسود"، فهل هو فعلًا سطحٌ مغلقٌ يوجد ما يحدث بداخله، أم أنه نوعٌ مختلفٌ من الأجسام؟

 

يتصرف الثقبُ الأسودُ كجسمٍ أسودٍ متوازنٍ ثيرموديناميكيًّا، ويطلق إشعاعًا حراريًّا أيضًا، وقد يتبين لنا مستقبلًا أن الثقب الأسود هو إثباتٌ واقعيٌّ للجسم الأسود الافتراضي.

 

من الجدير هنا الإشارة إلى أول صورة التُقِطت للثقب الأسود هي من تلسكوب إيفينت هوريزون (The Event Horizon Telescope) في شهر نيسان/ أبريل 2019، وتعود الصورة إلى الثقب الأسود في مركز مجرة مسييه 87. للاطّلاع على المزيد بخصوص الصورة:

بالإنجليزية:

https://eventhorizontelescope.org/press-release-april-10-2019-astronomers-capture-first-image-black-hole

بالعربية:

https://nasainarabic.net/main/articles/view/astronomers-unveil-photo-black-hole

 

الثقب الأسود في مركز مجرة مسييه 87  حقوق الصورة: EHT
الثقب الأسود في مركز مجرة مسييه 87 حقوق الصورة: EHT

 


 

  • تصنّف القوى الرئيسية من الأقوى للأضعف على النحو التالي: التفاعل القوي، ثم الكهرومغناطيسية، ثم التفاعل الضعيف، ثم التجاذبية. وتندرج تحتها جميعُ القوى التي عرفها الإنسان حتى الآن.
  • سرعة الإفلات Escape Velocity: أقل سرعة يحتاجها الجسم للإفلات من تأثير جاذبية جسم آخر ضخم الكتلة، وهي تعتمد على كتلة وحجم الجسم.
  • سنة 1905، توصّل أينشتاين إلى أن سرعة الضوء ثابتة في الفضاء، وهو الأمر الذي أخطأ بشأنه جون ميشيل حينما ظنّ أن سرعة الضوء قد تتناقصُ إذا ما امتصّه نجمٌ شديدُ الجاذبية.

المراجع:

  1. الفيزياء الحديثة لستيفن ثورنتون.
  2. مجلة المجتمع الفيزيائي الأمريكي - نوفمبر 2009: نوفمبر 27، 1783: توقعات جون ميشيل.
  3. إشعاع الثقب الأسود مبسّطًا لنيال مورشادا في المجلة الفلكية الإيرلندية: سبتمبر 1982.
  4. أفق الحدث على الموقع الرسمي لجامعة سوينبرن للتكنولوجيا.
  5. إشعاع الجسم الأسود على الموقع الرسمي لمرصد لاس كومبرس.
  6. "كيف تشعّ الأجسام: الجسم الأسود" على الموقع الرسمي لجامعة أولد دومينيون.

إمسح وإقرأ
شارك

المصطلحات
  • أفق الحدث (Event horizon): هي بعدٌ معين عن الثقب الأسود لا يمكن لأي شيء يقطعه الإفلات من الثقب الأسود. بالإضافة إلى ذلك، لا يُمكن لأي شيء أن يمنع جسيم ما من صدم المتفرد الذي يتواجد لفترة قصيرة جداً من الزمن بعد دخول الجسيم عبر الأفق. ووفقاً لهذا المبدأ، فأفق الحدث عبارة عن "نقطة اللاعودة". انظر نصف قطر شفارتزشيلد. المصدر: ناسا
  • الأيونات أو الشوارد (Ions): الأيون أو الشاردة هو عبارة عن ذرة تم تجريدها من الكترون أو أكثر، مما يُعطيها شحنة موجبة.وتسمى أيوناً موجباً، وقد تكون ذرة اكتسبت الكتروناً أو أكثر فتصبح ذات شحنة سالبة وتسمى أيوناً سالباً

المساهمون


اترك تعليقاً () تعليقات