وجبة غداء وسؤال فيرمي:

يمكن اختصار فكرة "مفارقة فيرمي" بقولنا: لو وُجدَت حضارات في الكون متطورة تكنولوجياً لكان باستطاعتها غزو الفضاء، ومنه فإنها إما غير موجودة، أو أنها لم تقم بزيارة الأرض بعد. وانطلاقا من هذه الفكرة، قال الكثيرون بعدم وجود الحياة في أي مكان من المجرة. لكن من ناحية أخرى، يُجادل الكثير من علماء الفيزياء بأن هذه المفارقة غير موجودة أصلا، وأن ما هو موجود حقا هو السؤال التالي: "أين الجميع؟". ويُطلعنا هذا المقال على بعض تفاصيل دراسة جرت مؤخرا تُحاول دراسة هذه المفارقةِ وأصلَها.

 

صارت هذه القصة نوعا من الأساطير مثل أسطورة نيوتن والتفاحة، وجورج واشنطن وشجرة الكرز. ففي أحد أيام عام 1950، عندما كان عالم الفيزياء العظيم انريكو فيرمي جالسا مع زملائه لتناول الغداء في فولر لودج في مختبر لوس آلاموس الوطني بنيو ميكسيكو، ليخرج من حديثه هذا مع أصدقائه بدليل قوي يتعلق بوجود كائنات فضائية ذكية. ومنذ ذلك الوقت عُرفت هذه القضية بـاسم "مفارقة فيرمي". لكن، ومثل الكثير من الأساطير، فإن لها حظا، ولو كان صغيرا، من الصحة. ولقد جاء شرح الأحداث الحقيقية لهذا في ورقة علمية لروبرت غراي (Robert Gray) ظهرت مؤخراً في مجلة Astrobiology.

 

كتعريف مختصر عن انريكو فيرمي يكفي أن نقول أنه كان الفائز بجائزة نوبل للفيزياء عام 1938، وأنه من قاد أول فريق طور مفاعلا نوويا في جامعة شيكاغو، كما كان المساهم الرئيس في مختبر لاس آلاموس مقر مشروع منهاتن الذي تم تمويله لينتج القنبلة الذرية خلال الحرب العالمية الثانية.

 

كثيرا ما تُسند القصة إلى إحدى محادثات فيرمي أثناء وقت الغداء، والتي ذكر فيها أن هناك الكثير من الكواكب المأهولة المشابهة للأرض في مجرتنا درب التبانة، وإن ظهرت حياة ذكية أو حضارات تكنولوجية فوق أي منها، فتلك الحضارة حتما ستخترع في النهاية وسائل للسفر بين النجوم، وستقوم أيضا باستيطان الأنظمة النجمية القريبة، كما ستُرسل هذه المستوطنات بعثات استيطان أخرى، وهكذا ستستمر العملية حتى يتم الوصول إلى كل الكواكب المأهولة في مجرتنا.

 

وبالتالي افترضت حقيقة عدم وجود كائنات فضائية هنا على الأرض أدلة قوية على أن هذه الكائنات غير موجودة في أي مكان من المجرة. وفي الواقع فإن هذه الفكرة ليست لفيرمي، لأن عالم الفلك ميشيل هارت (Michael Hart) سبق و أن نشرها قبل أكثر من 25 عام من مجيء فيرمي، كما تم تفصيلها في ورقة علمية نشرها عالم الكون فرانك تيبلر (Frank Tipler) عام 1980.

 

لكن هذا لا يعني أن محادثة غداء فيرمي لم تحصل. فقد نشر عن عالم الفيزياء إيرك جونز (Eric Jones) بعد وفاته بسبب مرض السرطان بأربع سنوات مجموعة من محادثات فيرمي مع أصحابه أثناء فترة الغداء بعد أكثر من 35 عام. وكان ادوارد تيلير (Edward Teller)، وإميل كونوبينسكي (Emil Konopinski)، وهيربرت يورك (Herbert York)، وكلهم علماء فيزياء بارزون من بين من ساهموا في مشروع منهاتن. فتيلير لعب دورا محوريا في تطوير القنبلة الهيدروجينية، أما كونوبينسكي فكان هو من درس بنية النوى الذرية، بينما أصبح يورك مديرا لمختبر لورانس-ليفرمور الوطني.

 

ناقش علماء الفيزياء أثناء التجول في فولر لودج الرؤى الجديدة المتعلقة بالأجسام الفضائية الغريبة (UFO)، ورسوما كرتونية في مجلة "نيويوركر" تُصور كائنات فضائية وصحونا طائرة. كان النقاش يجري أثناء وقت الغداء، ويذكر تيلير ماحدث ويقول: "في وسط المحادثة، طرح فيرمي بطريقة غريبة و مفاجئة سؤالاً لم يكن متوقع أبدا حين قال: "أين الجميع؟"...فضحك الجميع بسبب غرابة الأمر. فعلى الرغم من أن سؤال فيرمي كان واضحاً، فقد فطن جميع من كان حول الطاولة مباشرة إلى أنه يقصد الكائنات الفضائية" رغم أن أي أحد منهم لم يتطرق إليها قبل سؤاله ذاك.

 

وكتب تيلير على ورقة حسابه على الغداء الشهير: "أنا لا أؤمن بأن الكثير من الأمور قد جاءت من هذه المحادثة، عدا حقيقة التصريح بأن المسافات التي تفصلنا عن أشكال الحياة الأخرى قد تكون كبيرة جداً. وفي الواقع إن نظرنا إلى مجرتنا فنحن نعيش في مكان بعيد عن المناطق المزدحمة في مركز المجرة".

 

أما يورك فقد ذكر أن ذلك قد كان متبوعا بنقاش عميق قام خلاله فيرمي بسلسلة من الحسابات المتعلقة باحتمال وجود الكواكب المشابهة للأرض، واحتمال وجود حياة كتلك الموجودة على الأرض، بالإضافة إلى احتمال ظهور حياة البشر، ورجحان ظهور تكنولوجيا متطورة مع استمرار تطورها. كما استنتج فيرمي بالاعتماد على هذه الحسابات أنه كان لا بد من أن تتم زيارتنا منذ فترة طويلة جدا من الزمن لو أن تلك الحضارات كانت موجودة بالفعل.

 

ووفقا ليورك، فقد افترض فيرمي أن السبب الكامن وراء عدم زيارتنا هو استحالة الطيران في الوسط بين-النجمي، أو أن الحضارات التكنولوجية لم تستمر لفترة كافية لحصول ذلك.

 

وعلى النقيض من هارت، فإن فيرمي لم يكن مرتابا حول وجود الكائنات الفضائية، ولم ينظر أبدا إلى غيابهم عن الأرض كمفارقة. وهكذا نجد أنه لا وُجود لمفارقة فيرمي، بل أن هناك ببساطةٍ السؤال التالي: "أين الجميع؟" وكإجابة عن هذا السؤال فإن هناك الكثير من الأجوبة المحتملة، أما الإجابة التي فضَّلها فيرمي فقد كانت إما أن السفر في الفضاء بين-النجمي أمر غير عملي بسبب وجود مسافات هائلة، أو ببساطة أن الأرض لم تتلق أي زيارة من أي كائنات فضائية.

 

تعَد المسافات بين-النجمية كبيرة جداً، ولأنه حتى لو تم تصغير حجم كامل النظام الشمسي وصولاً إلى مدار نبتون لدرجة يصل فيها حجم النظام إلى حجم عملة معدنية أمريكية، فإن أقرب النجوم إلينا -وهو بروكسيما سنتوري- سيظل على بعد يصل إلى طول ملعب كرة قدم أمريكية. ونظرا لهذه المسافات الكبيرة جدا، فإن السفن الفضائية العلمية ستحتاج عند السفر إما إلى سرعة هائلة جداً تصل إلى نسبة معتبرة من سرعة الضوء، أو أن تكون قادرة على دعم طاقمها للنجاة على مدار فترة طويلة جداً من الزمن.

 

وفي الوقت الذي يُعتبر فيه كل من الاحتمالين ممكناً نظرياً، فإن السفر بين النجوم يعد لدى البشر أمرا متكلفا، وليس من الواضح إن كانت أي حضارة تستطيع أو ترغب بجمع المصادر الهائلة واللازمة للقيام بذلك. إذا من أين تأتي الحيرة التي تحيط بسؤال فيرمي عند أخذ مناقشة هارت له بعين الاعتبار؟ لقد ذكر كارل ساغان أن ذلك السؤال وُجد كتعليق في هامش إحدى الأوراق عام 1963. وبعد نشر هارت لورقته عام 1975، أصبح سؤال فيرمي وإجابة هارت التأملية متعلقين بأفكار عديدة للكاتب. فقد بدا أن سؤال فيرمي يلتمس ويسعى وراء إجابة هارت، ومن هنا وُلدت "مفارقة فيرمي".

 

ووفقاً لروبرت غراي، فقد وُضع ستيفنسون تلك العبارة في ورقة له نشرت بعد عامين من نشر ورقة هارت.

 

إمسح وإقرأ

المصادر

شارك

المساهمون


اترك تعليقاً () تعليقات