الذاكرة العاملة 1

الذاكرة العاملة working memory هي جزء محدود السعة من منظومة ذاكرة الإنسان، وهي التي تجمع التخزين الزمني المؤقت والتلاعب بالمعلومات في ما يخدم مَلَكة المعرفة cognition. يشير مصطلح "الذاكرة قصيرة الأمد" short-term memory إلى عملية تخزين المعلومات بدون التلاعب بها، وعليه فإنها جزء من الذاكرة العاملة. كما تختلف الذاكرة العاملة عن الذاكرة طويلة الأمد، أما الأخيرة فهي جزء منفصل من منظومة الذاكرة، ولها سعة تخزينية ضخمة، وتحتفظ بالمعلومات بشكل أكثر ثباتًا نسبيًا. بحسب نموذج المكونات المتعددة للذاكرة العاملة multi-component model، فإن الذاكرة العاملة تشتمل على متحكم تنفيذي executive controller يتفاعل مع مخازن مختلفة من المعلومات المنفصلة قصيرة الأمد، والتي قد تكون سمعية، أو لفظية، أو إبصارية فراغية visuo-spatial. أثبت مصطلح "الذاكرة العاملة" أنه ذو فائدة في العديد من التطبيقات، والتي تشتمل على الاختلافات الفردية في المعرفة، وعلم النفس العصبي، والتطور الطبيعي وغير الطبيعي للأطفال، والتصوير العصبي.

يُستخدم مصطلح الذاكرة العاملة أكثر ما يستخدم في الإشارة إلى نظام محدود السعة، نظامٍ قادر على تخزين المعلومات والتلاعب بها لمدة قصيرة، وهذه المعلومات التي يخزنها تتعلق بأداء وظائف معرفية معقدة كالتفكير المنطقي، والفهم، وأنواع محددة من التعلم. أما الاختلاف بين الذاكرة العاملة والذاكرة قصيرة الأمد فيكمن في أن الذاكرة العاملة تشتمل على تخزين المعلومات والتلاعب بها في آن معًا، وكذلك في دورها الوظيفي في المعرفة المعقدة complex cognition. تم تطوير العديد من الأساليب المختلفة في دراسة الذاكرة العاملة، مع وجود اختلافات فيما بينها تعكس الاهتمامات المختلفة للباحثين، سواء كانت الاهتمامات تصب في مصلحة علم النفس العصبي neuropsychology، أو علم الأحياء العصبيneurobiology، أو قياس العمليات النفسية psychometry، أو في سبيل توفير توجيه عملي مبني على العوامل البشرية. وعلى الرغم من وجود طرق وأنماط نظرية مختلفة، إلا أن هناك اتفاقًا عامًا على الحاجة لافتراض دور لشيء شبيه بالمتحكم التنفيذي، وعلى الأغلب أن يكون له سعة انتباه محدودة، تساعدها أنظمة تخزينية مؤقتة، كما يعمل فيها نظام التخزين البصري واللفظي، على الأغلب، بشكل منفصل. في الواقع، إن تركيبًا كهذا كان قد اقترحه قبلًا كل من بادلي (Baddeley) وهيتش (Hitch) عام 1974. فبينما يمكننا القبول بأن هذا النموذج الذي وفره بادلي وهيتش هو مجرد واحد من العديد من النماذج، إلا أن نموذجهما متعدد المكونات يزودنا بتركيب ملائم تُلَخَّصُ من خلاله الأبحاث المتعلقة بالذاكرة العاملة للسنوات الثلاثين التي مضت على اقتراح هذا المصطلح.

قبل الخوض في شرح الذاكرة العاملة، من المهم أن نوضح أنّ مصطلح "الذاكرة العاملة" تم تطويره بشكل منفصل في دراسات تعلم الحيوان، حيث تشير إلى نوع من التعلم أو من الذاكرة يُظَنُّ أنه يدعم مهمات مثل المتاهة شعاعية الأذرع، والتي يكون على الحيوان فيها أن يتذكر أيًا من الأذرع المتعددة تمت زيارتها مسبقًا في ذلك اليوم، هذه المهمة التي يمكن اعتبارها تعتمد على الذاكرة طويلة الأمد.
 

النموذج متعدد المكونات للذاكرة العاملة


في ستينيات القرن المنصرم، كانت هناك فترة زمنية قصيرة من الإجماع بين الباحثين على أن ذاكرة البشر تكونت من نظام يمكن تقسيمه إلى جزأين رئيسيين. الأول مخزنٌ قصير الأمد؛ قادرٌ على الاحتفاظ بكميات قليلة من المعلومات لثوانٍ قليلة، ويقوم هذا المخزن بتلقيم مخزن منفصل طويل الأمد وقادر على الاحتفاظ بكميات ضخمة من المعلومات لمدة زمنية طويلة. يمكن لهذا النموذج "الشكلي" أن يفسر العديد من البيانات التجريبية، كما كان بإمكانه أن يفسر الآثار الانتقائية للأنواع المختلفة من الأضرار التي تصيب الدماغ على الاستعادة قصيرة المدى والاستعادة طويلة المدى للذكريات.

بدأ بادلي وهيتش في فحص النظرية القائلة بأن المخزن قصير الأمد يمكنه أن يعمل كذاكرة عاملة، وقد قاموا بذلك عن طريق الطلب من المشاركين أن يقوموا بمهام التفكير المنطقي، والفهم، والتعلم، وأن يقوموا بذلك بينما يكونون محتفظين بذكريات قصيرة الأمد تتكون من خانات ما بين 0 و 8 يحتفظون بها من أجل الاسترجاع الآنيّ بعد كل مهمة. إذا كانت الذاكرة قصيرة الأمد تعمل كذاكرة عاملة، فإن تحميلها بما يملأ سعتها التخزينية يجب أن يقود إلى تعطيل المعالجة المعرفية cognitive processing. وفي الواقع فإن تحميلها وُسعها قد تسبب ببعض التعطيل، وذلك بزيادة الوقت الذي احتاجه المشاركون من أجل أداء وظائف التفكير المنطقي كلما ازداد الحمل، إلا أن هذا الأثر لم يكن كبيرًا، كما أنه لم يكن هناك أيما تأثير على نسبة الخطأ من المشاركين. وبناءً عليه، فقد تخلى بادلي وهيتش عام 1974 عن النموذج الشكلي، والذي كانت تعتبر فيه الذاكرة قصيرة الأمد مخزنًا وَحْدَوِيًا unitary store، وقاموا بدلًا من ذلك باقتراح نموذج المكونات المتعددة multicomponent model، والذي يحتوي على متحكِّم انتباهي attentional controller، وهو النظام التنفيذي المركزي الذي يساعده نظامان فرعيان آخران. أولهما هو "دفتر التخطيط" الإبصاري الفراغي visuospatial sketchpad والمتعلق بالتخزين البصري والمعالجة البصرية، والثاني هو المكافئ السمعي/اللفظي لدفتر التخطيط، وهو الحلقة الصوتية phonological loop.

الحلقة الصوتية


هذا هو النظام الفرعي الذي يفترض به الاحتفاظ بخانات الأرقام المتتالية من أجل الاسترجاع الآني عند الحاجة. في الدراسة التي تحدثنا عنها، تدل حقيقة أن التفكير المنطقي قد أصبح بطيئًا بزيادة عدد الخانات، على أنّ هذه الذاكرة تلعب دورًا ما في التفكير المنطقي، ولكن عدم تغير نسبة الخطأ يدل على أن هذه الذاكرة ليست أساسية في التفكير المنطقي. ويفترض أن لهذه الذاكرة مكونين أساسيين، أولهما هو مخزن مؤقت صوتي/متعلق بالكلام، والآخر هو عملية التكرار اللفظي اللاصوتي في العقل (تكرار الكلام في عقل الشخص، ولكن بدون التلفظ الصوتي به).

يُستدل على وجود المخزن الصوتي phonological store من خلال وجود أثر لتشابه الأصوات phonological similarity effect، والذي يكون فيه الناس أقل دقة عند إعادة التسلسلات ذات الصوت المتشابه مثل MAN CAP CAT MAT CAN، بحيث تكون الدقة أقل من الكلمات ذات الاختلاف الصوتي مثل PIT DAY COW PEN TOP. أما التشابه في المعنى (HUGE LARGE BIG WIDE TALL) فله أثر قليل على الاسترجاع الآني. على الجانب الآخر، فإننا لو أعطينا المشاركين عدة تجارب من أجل تعلم قائمة أطول من الكلمات (ولنقل 10 كلمات)، يصير المعنى ذا أهمية أكبر ويفقد الصوت أهميته، ما يدل على وجود عدة أنظمة من أجل التخزين قصير الأمد وطويل الأمد.

أما أثر طول الكلمات word length effect فهو الذي يعطينا الدليل على أهمية التكرار rehearsal. الذي يحدث بالنسبة لهذا الأثر هو أن الاسترجاع الآني للكلمات الطويلة (مثل REFRIGERATOR UNIVERSITY TUBERCULOSIS OPPORTUNITY HIPPOPOTAMUS) يكون أكثر تعرضًا للخطأ من استرجاع الكلمات القصيرة.

اقترح بادلي وهيتش أن تتبع الذاكرة للعناصر الموجودة في المخزن قصير الأمد سوف يختفي بسرعة، ولكن يمكن أن يتم الاحتفاظ به عن طريق تكرار الشخص ذكرَ هذه العناصر لنفسه. تستغرق الكلمات الطويلة وقتًا طويلًا للتلفظ بها، ما يُتيح للاختفاء أن يحدث بشكل أكبر، وبالتالي يصبح النسيان أمرًا محتملًا بشكل أكبر. ومما يتوافق مع هذا التفسير، أنّ منع المشاركين من التلفظ بالكلمات لأنفسهم عن طريق التلفظ المتكرر لعنصر آخر، مثل الكلمة "the"، يزيل من أثر طول الكلمات على التذكر[1]. منذ أن نُشر التوضيح الأولي لأثر طول الكلمات، اقتُرحت تفسيرات أخرى لهذا الأثر، وقد اختلفت بشكل أساسي في التضمينات التي يحملها الأثر؛ فهل يحصل النسيان للعناصر الموجودة في الذاكرة قصيرة الأمد نتيجة للتلاشي التلقائي لآثار الذاكرة؟ أو أنه يحدث نتيجة للتعطيل والهدم من قبل الذكريات الجديدة؟

كان لهذا المفهوم (الحلقة الصوتية) أثرُه على عدد من المحاولات لمحاكاة أداء الإنسان في المهام اللفظية للذاكرة قصيرة الأمد، باستخدام نماذج حوسبية أكثر تفصيلًا. ركز الصنف الأول من هذه النماذج على تحديد الآليات المستخدمة في التعامل مع المعلومات حول الترتيب التسلسلي للعناصر، وهو جانب كان متروكًا بدون تحديد في الوصف الأصلي للحلقة الصوتية. تتجه هذه النماذج إلى الاتفاق على أن الترتيب التسلسلي يشتمل على "اصطفاف تنافسي" competitive queuing، وهي عملية تكون فيها العناصر ناشطة في نفس الوقت وتتنافس على الانتقاء التسلسلي. تختلف هذه النماذج بشكل أساسي فيما يتعلق بطبيعة إشارات الترتيب ordering cues والتي تحدد مستويات النشاط المذكورة. كما أن المحاولات الحديثة في النمذجة الحوسبية قد ذهبت في مساعيها لأبعد من ذلك، وذلك بتحديدها كيف يكون للتخزين الصوتي قصير الأمد أن يتفاعل مع الذاكرة طويلة الأمد، وهي خطوة مهمة في فهم دور هذه الحلقة فيما يتعلق بالتعلم طويل الأمد.


وظيفة الحلقة الصوتية


بفرض أننا نقبل بالدليل على وجود منظومة ذاكرة لفظية أو صوتية مؤقتة، يظهر لدينا السؤال المتعلق بأهميتها في التطور. أحد الاحتمالات هو أن الحلقة الصوتية تدعم اكتساب اللغة، وذلك بتزويدها لوسيلة مؤقتة لتخزين الكلمات الجديدة، في الوقت الذي يتم فيه توطيدها في الذاكرة الصوتية طويلة الأمد. يأتينا الدليل على ذلك من مريضة تعاني من عجز مجرد في الذاكرة الصوتية قصيرة الأمد، والتي يصعب عليها بشكل كبير أن تتعلم أو أن تربط الكلمات الجديدة الغريبة بمعناها، بينما كان أداؤها طبيعيًا عندما كانت تتعلم ربط أزواج من الكلمات في لغتها الأم (Baddeley, Papagno & Vallar, 1988).

تابعت سلسلة من الدراسات هذه النظرية، حيث فحصت إحدى الدراسات أطفالًا في سن الثامنة عندهم اختلال نوعي في اللغة specific language impariment، والذين يمتلكون معدل ذكاء عامٍ ضمن المستوى الطبيعي، ولكن لغتهم كانت في مستوى الأطفال في سن السادسة. كان من الصعب على الأطفال أن يرددوا "اللاكلمات" من مثل SKITICULT. ولم يبد الأطفال أية علامة على اختلال في السمع أو إنتاج الكلام، إلا أن النقيصة التي امتلكوها تُعزى إلى اختلال في الذاكرة الصوتية قصيرة الأمد. أظهرت نتائج الدراسات على التوائم أن النقيصة الحاصلة في تكرار "اللاكلمات" عند ذوي الاختلال النوعي في اللغة هي نقيصة موروثة، إلا أنهم وجدوا أن هناك نقائص أخرى تساهم في إحداث هذا المرض. هذا ويتناسب أداء الأطفال في اختبار تكرار "اللاكلمات" بشكل كبير مع مستوى تطور المفردات لدى الأطفال الطبيعيين، إلا أنه عندما يكبر الأطفال، فإن عوامل أخرى كالذكاء والتعرض للغة تصير أكثر أهمية فأكثر. حديثًا، ازداد الاهتمام بدور الحلقة الصوتية في التحكم في السلوك، وذلك عن طريق التعليمات الموجهة للذات self-instruction، وهي وظيفة تم التأكيد عليها أولًا من قبل اختصاصيَّي علم النفس الروسيين، لوريا (Luria (1959، وفيغوتسكي (Vygotsky (1962.


"دفتر التخطيط" الإبصاري الفراغي


لقد تطورت دراسة الذاكرة الإبصارية الفراغية قصيرة الأمد visuo-spatial STM بشكل كبير في السنوات الأخيرة، كما أنها موصوفة بشكل جيد في المدخل الخاص بها عند لوك Luck، والذي يقترح أن وظيفتها الرئيسية تتمثل في خلق تمثيل إبصاري فراغي يبقى ثابتًا خلال الحركات غير المنتظمة للعين، تلك الحركات التي تميز مسحنا البصري للعالم من حولنا.

هناك وظيفة أخرى لدفتر التخطيط هذا، ألا وهي خلق الصور البصرية والحفاظ عليها، هذه الصور البصرية هي من النوع الذي نستخدمه على سبيل المثال في إجابة أسئلة من مثل "هل أُذُني كلب الكولي مرنة أو مثقَبّة؟"، وقد نستخدمها في وصف الطريق من المحطة إلى المنزل، أو قد يستخدمها المهندس في تخيل البناء الذي سيقوم بتصميمه. من جانب آخر، فقد تبين أن المهام المكانية spatial tasks قد تتعارض مع المهارات المكانية كقيادة سيارة، بينما قد يتداخل نشاط بصري صرف (كرؤية تسلسل من الصور، أو القطع الملونة) مع قابلية تذكر الأجسام أو الأشكال. هذه النتائج، جنبًا إلى جنب مع تواجد مرضى مصابين بأضرار في الدماغ والذين يظهرون نقيصة معينة ولا يظهرون نقيصة معينة أخرى، تشير إلى أن المعلومات عن المكان، وعن الأجسام وخصائصها البصرية، قد يتم تخزينها بشكل منفصل. يبدو كذلك أنه من المرجح أن يكون دفتر التخطيط أيضًا ذا علاقة بتخزين تسلسل الحركات، ما يشير إلى وجود قابلية لتخزين المعلومات المتعلقة بإدراك الحركة بالإضافة إلى المعلومات الإبصارية الفراغية. من الجدير بالذكر أن وجود تشابهات بين تخزين ترتيب تسلسلي في الذاكرة البصرية والذاكرة اللفظية يشير إلى وجود عمليتين متشابهتين، ولكن ليس بالضرورة تواجدهما في النظام نفسه.
 

الملاحظات


[1] ذلك أن طول الكلمات يؤثر على الاحتفاظ بالذكريات عن طريق تأثيره على التكرار، فإذا ألغينا التكرار، فإنّ أثر طول الكلمات على الاحتفاظ بالذكريات سوف يختفي.

إمسح وإقرأ

المصادر

شارك

اترك تعليقاً () تعليقات